خاشقجي.. الحقيقة إلى جانب الإنسان

خاشقجي.. الحقيقة إلى جانب الإنسان

18 أكتوبر 2018
+ الخط -
غالبا ما كانت تدفن الحقيقة في رمال الربع الخالي، أو في تربة قحطان أو عدنان، وتتعازم القبيلة مساءً على النسيان، والضعيف الذي لم تره العدالة يأخذ الديّة مسلمةً إلى أهله، ثم يجر عليها رباب النسيان والمصالح المشتركة في الصحراء مع رحلات اليمن والشام. أما جمال خاشقجي فقد كان إنسان العالم ومندوبها إلى العدل، كي تعتدل الموازين في لحظةٍ باتت تسخر من الدافنين وأساليبهم البدائية والحقيرة، والتي تجلب إلى أنوفنا روائح التاريخ الماضي من بطون الكتب.
خجلت العدالة القديمة من عيون جمال الصافية، ومن فرط أدبه وتحضره، وابتعدت الجريمة بالمصادفة بمسرحها عن جبال نجد والربع الخالي هذه المرة. علّها بركة جمال وروائح تصوّفه، علّها المصادفة المحضة كي توقف البغاة عن بغيهم، حتى وإن تحصّنوا بالقنصليات والأبواب والحديد.
مالت الحقيقة، هذه المرة، على الرغم من أثقال الزيف المتراكمة إلى ناحية الفرد الوحيد المطارد عبر العالم، فقط تنتظره سيدة خارج الباب، علّ العدالة لم تجد أجمل منه وأجمل منها، كي توصل رسالة إلى العالم، من خلال دمه، أن العالم ممكن أيضا أن يكون قريبا ونصيرا للعدل ولو مرة واحدة. للعدالة أيضا مكرها الحميد. هل اختارته العدالة هو بالذات، لكي يقوم بهذه المهمة الشاقة التي كلفته حياته، كي يجدّد للعالم ولو أسبوعين فقط، ولو حتى نرى (بعد موته) بصيصا من نور إنسانيتها على الأرض، بعيدا عن سيوف القبيلة ورعونتها، وعن حداتها وقطعانها في ليل الصحراء والقتل والمغانم. تصوّروه مغنما سهلا، ولكنهم لم يقدّروا ثراء روحه وبركتها التي جعلت من العالم كله نصيرا له، حتى من أصدقائهم من مراكز صنع القرار في الغرب.
استفزّت الجريمة مشاعر الناس السوية، أما المرضى فلو حتى مشت على أعصابهم المناشير. لم يكن الصيد سهلا، وكانت القبيلة فاجرةً وغليظة القلب. كان جمال خاشقجي (بدمه للأسف) فرصة مقدّمة للعالم كي يتأمل قسوة المظالم، بعدما قدم كأضحية للوطن والحقيقة والإنسانية بلا ادعاء أو علو صوت أو مشاكسات أيديولوجية. كان هادئ النبرة في تناوله موضوعاته من دون تزيدات، ومن دون زيف، وكأنه يحادث روحه حينما يتكلم وكأنه يقول "سأظل هكذا هادئ النبرة وأقول ما أراه".
كان جمال فرصة للعالم (بعد قتله للأسف) كي يراجع العالم حساباته مع المصالح والتوازنات وبيع الأسلحة (تلك المقولة التي لاكها ترامب مرات، متحسرا على 110 مليارات دولار)، وكأنه يقول، من طرف خفي، لو مشينا مع العدل ستضيع علينا آلاف الوظائف، وتذهب الـ 110 مليارات إلى روسيا، وكأنه يضع دماء خاشقجي في ميزان أمام الـ 110 مليارات، كي يتغاضي الناس عن الدم البسيط لرجل بسيط ووحيد جاء من الشرق، وأيضا ليس مواطنا أميركيا.
حاول ترامب أن يلعب دور سمسار دم، ويغري أميركا بال 110 مليارات. عيون التاجر دائما على المنفعة، لكن عين العدالة (في ساعات بركات الكون) على الموازين، ولم يعرف ترامب ساعتها أن روح جمال كانت ملأت العالم، وصارت لها مكانتها التي تزيد عن هذا المبلغ بكثير.
صارت روح جمال خاشقجي روح كل إنسان، صار جمال إنسان العالم وصديقه، وهنا مالت الموازين ناحية الحق ببركة دماء جمال الذكية وروحه الصافية. تحدث التجّار، وتحدث المرابون بالخوض في جمال خاشقجي، مرّة بالتصريح، ومرة بالتجريح ومرة بالصور. وللأسف، كان معظم التجّار من مصر، كي تمر صفقة الدم، أي أنهم كانوا أكثر من ترامب (ترامبية)، ذلك الذي يسبّونه صبح مساء، مالوا ضد جمال خاشقجي، حتى تماسّوا مع ترامب، وزايدوا عليه أيضا، كي ينسى العالم دماء جمال، المكايدة نفسه التي نعايشها من سنوات خمس، نالت أيضا من جمال ومن سيرته، كي يظل القطيع في مكانه، ويظل التجار مع أرباح تجارتهم الكلامية، ولو حتى على حساب دم إنسانٍ وحيد ترك بلاده والمغانم التي كان فيها باحثا عن العدل.
قدم جمال خاشقجي، بكل هدوء، دمه للقتلة وللعالم، كي يقول كلمته الأخيرة من أجل نفسه، ومن أجل قناعاته ومن أجل إنسانةٍ ارتبط بها، تركها على الباب ودخل، كي تذهب هي بدونه إلى بيتها من غيره، ويذهب هو إلى جوار ربه شهيدا غاسلا يديه بدمه من مغانم العالم الزائلة، بعدما أضاء للعالم طرقا نحيلة من نور وصفاء.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري