سندبادُ كتبٍ ضلَّ طريقَه

سندبادُ كتبٍ ضلَّ طريقَه

04 ابريل 2024

لوحة "لقارئ" للويس ماركوسي

+ الخط -

كان للكاتب خورخي لويس بورخيس بَلْطَته القاطعة وهو يناطح الإسبانية القديمة والمعاصرة، واللاتينية القديمة، بعدما تجاسرت وتبعّثرت في جغرافيا أوروبا ومذابحها الإنكليزية، وغيرها، حتى وصلت مراكبها إلى الأرجنتين. أحبّ بورخيس حتى الرقصات الشعبية وإيقاعاتها، وبخاصة الفلامنكو، وأنا فقيرٌ ولا أمتلك نصاعة الإنصات والزحف كالثعبان البورخيسي في حوليّاتِ اللغةِ ومنابِعها، ومذابحِها، ومتناقضاتِها ومتشابهاتِها، وما صار مركوناً ومنسيّاً في جيوب القواميس ودهاليزها المرهقة. فكيف جاب هذا الأرجنتيني كل هذه الطرقات؟

أنا سندباد فقيرٌ بلا بَلْطَةٍ ولا عُدَّةٍ ولا منشار. وحتى مكتبتي فقيرة فقر وظيفتي المكتبية التي مارستها زَهْقَاً وضيقاً ستة وثلاثين عاماً دون أن أصل لأي صفاء. فقط، أجلس كنحلةٍ فوق زهرات الكتب، وسريعاً ما أطير مندهشاً وحيران إلى جهاتٍ أخرى معاكسةٍ تماماً للأولى التي أخذتني، وقد أنسى خطواتي التي بَدَأْتُها، وأتأمّل بعد سنوات دماء أحباري التي ما زالت تنزف رغم نسياني لها فوق أوراقي القديمة.

أجري كي أجالس بعض المدرّسين الشاردين من حصصهم، والمهزوزين أيضاً، هم صيدي وأعرفهم، وعلّني أنا صيدُهم دون أن أدري لُؤْمَهُم. شَرَدوا من حِصَصِهم بحثاً عن رزق آخر في الدروس الخصوصيّة والمجموعات. ويأتيني مُدرّس لغة إنكليزية، في يومٍ تراه متديناً جداً، واعتبر نفسه في بداياته من دراويش مصطفى محمود، وألّف كتاباً عن الدخان والسجائر رأى فيه، بكلّ يقين، أنّ شجرة الزَّقُّومِ، الوارد ذكرها في القرآن، هي "الشجرة التي منها يكون التَبْغ في أيامنا المعاصرة". بعد أن يترك المدرسة بسبب ضربه تلميذاً، يفتح صالون حلاقة.

ترى في الحياة أحياناً أشخاصاً يقولون لك صباح الخير، هم أكثر غرابة من بعض شخصيات "ألف ليلة وليلة"، كيف أفلتنا بالكتابة وحدها من جبال الكآبة تلك؟

أتعجّب من بورخيس الذي يُنْصِتُ للأشخاصِ بعمقٍ، وكأنّه يتنفّسهم ويتلمّس خطاياهم بعقله بسخرية هادئة جداً، ويستطيع بعد ذلك أن يمشي كنمرٍ مع لُؤْمِ الكتب، بصرف النظر عن محبّته للنمور، وللسكاكين حين كانت تتلاعب في أيدي المتصارعين والفتوات في الأرجنتين، فكيف انتقل بورخيس من لؤم الكتب إلى عنف الفتّوات بسكاكينهم إلى الشعر، إلى رقصة الفلامنكو حتى تعدّى الثمانين، وأنا هنا أخاف من لُؤْمِ الكتب، فأطير سريعاً كالعصافير إلى أشياء أخرى. واضح أنّ المعرفة قويّة جداً، وأنا أضعف مما كنت أتصور بكثير.

في مدرسة داقوف الإعدادية، كان يأتيني مجنونٌ؛ فلّاحٌ بجلبابه يَضْحَك، وكأنني أعرفه منذ سنوات، وفجأةً جاء الثاني، وفجأةَ وجدنا مدرّس لغة إنكليزية بعد مروره بأزمة نفسية بدأ يحيي العَلَمَ في الصباح باللغة الإنكليزية، حينها لطم ناظر المدرسة صدغَيه، وصَرَفَ التلاميذ إلى الصفوف، وعقد اجتماعاً في حوش المدرسة، فرأينا سِربَاً من الكلاب يدخل علينا كالوحوش، وراء كلبة مسكينة. ضحك المدرّسون وظهر الحياء على وجوه المدرّسات، فأنهى الناظر الاجتماع طالباً لنفسه كوباً من الشاي تحت أشعّة الشمس، وإذا به، وهو يشرب الشاي، يراني أجلس مع ذلك الفلاح المجنون أضحك، فقال لي ضاحكاً: "يعني إحنا عاوزين نصدّر من النوعية دي ياريس يا بتاع المكتبة وأنت تستورد لنا من الغيطان؟"، فتركت "دولاب" مكتبتي في تلك المدرسة بعد شهرين، وعملت في المنظّمة الدولية "sos"، مشرفاً في بيوت الشباب، وكنت لا أجد راحتي إلا مع "الجناينية" أكلاً ومجالسة.

هل الناس هي تلك الكتب المغلقة؟ ولو كان بورخيس أعطى لنفسه فرصة لصاحبَ الناسَ بدلاً من الكتب. أم أنّ الكتب آمنة جداً وطيّبة، بخاصة لرجل حسّاس صار فيما بعد كفيفاً؟

وأنا أمشي وراء خُطَى بورخيس في الكتب خطفني بول باولز إلى طنجة، ذلك النمر الهادئ أيضاً، الذي تخاطفته الموسيقى والسرد، وكان ينصت للحكّائين وعينه تتنقل من البحر إلى الصحراء. كان يمتلك شغفاً هادئاً، وكانت مكتبته أقل زحاماً بكثير من مكتبة بورخيس العامرة بالقواميس، كانت الجغرافيا مع الموسيقى تناديه وهو في غفوة السرد أو الكيف، فيغادر طنجة إلى الصحراء، كما غادر أميركا إلى طنجة.

كانت جغرافيا بورخيس في الكتب، وكانت كتب باولز في تجواله الدائم بحثاً هناك عن موسيقى غامضة وبآلات بسيطة.

عن ماذا يبحث الحيران عموماً، وبخاصة إذا كان معنياً بترك ذلك الأثر كقيمةٍ رمزيّةٍ ما، خلف ظهره في ذلك الكون؟

كان باولز يَمْقِتُ فكرة الأثر ويتكّلم عنها بتَهكّم هادئ. وفجأة، هَرَبْتُ من بول بولز إلى كلّ من أحمد اليعقوبي ومحمد المرابط، وعند المرابط وقفت طويلاً. قد يكون لي معه وقفة، وقد لا أتحمّل ذلك فأنساه ثانية.