الوطن حينما يكون حبيباً

الوطن حينما يكون حبيباً

11 ابريل 2024
+ الخط -

للشاعر الألماني هاينرش هاينه مقولة مفادها: "في ما مضى كان لي وطنٌ حبيبٌ". وتقول الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان "البيت وطنٌ".

البيوت تلك المساحات القليلة التي بالكاد نعيش فيها، ونمشي بجوار الحائط أو أكثر من ذلك، كي يَمرّ بسلامة يومُنَا من غير نكدٍ أو مضايقاتٍ، لنا أو لغيرنا. ما علاقة هذا كلّه بذلك الحُبّ المفقود؟ وكيف لم نحافظ على مودة ذلك الحبيب/ الوطن؟ وهل كلّ الذنب يُلقى على المواطن الوحيد، سواء ظلّ في وطنه أو تركه مغلوباً أو مهاجراً أو معتزلاً أو حتى وهو يعيش على حافّته في ضياع أو في سكون واكتفاء؟ ما الذي يوصل الحُبَّ وما أسباب ذبوله أو نقصانه؟

لا أحبُّ الأغاني التي تُحرّض على المحبّة، فالمحبّةُ لا يُحَرّض عليها، ولا أحبُّ الأناشيد في المحبّة، خاصّة تحت تأثير التوجّه السياسي، فكلّها أشياء لا تخدم سوى السلطة. ومع ذلك، لا مانع أن تشعر بالحنو تجاه شجرة "نبق" في شارعك القديم أو خيّاط أعمى يعمل بالإبرة على "عراوي الجلاليبب" ليل نهار أو ذلك "الغيط" الذي عملتَ به صغيراً أو ذلك القمر السهران الذي كان لا يفارق سطحَ منزلكَ أو تلك "الترعة" الصغيرة التي عُمتَ فيها واصطدتَ الأسماكَ من مياهها أو ذلك القطار الذي يحمل عيدان قصب السّكر وكنت تعرف صوته وتحنّ الآن لأن تراه وهو يتهادى بالقصب من بعيد في بلدتك الصغيرةِ، بعدما رفعوا قُضبانَه وباعوا أرضه دكاكين، وباعوا الخردة أيضاً للمصانع. فالوطن أشياء حميمة كنت تنظر إليها من على القنطرة كأحلامٍ جميلةٍ، كعبورِ بنتٍ صغيرةٍ جميلةٍ وراء "الجاموسة" وفي يدها عُكّاز من شجر السنط، وكنت تبتسم على يدها الصغيرة وهي متحكّمة في العكّاز كنمر، ومنتبهة لرسن "الجاموسة" في ساعات العصارى، وهي ذاهبة بها إلى "الترعة" كي ترعى نبات الحلفاء على الجرف. أما عيونها الزرقاء فتلك حكاية أخرى، وخاصة حينما ترفع عُكّازها للعيال، وتخطف عود القصب الساقط من القطار.

محبّة الوطن هي ألا أنسى ما حييت ليلةً جميلةً نمتُ فيها على محطة الجيزة، ولم يكن في جيبي أزيد من جنيه واحد. وبعد الفجر بقليل، خرجت فتاة جميلة ونفضت "الكليم"، ثم سقت صبّارتين على "البلكونة"، وما زلتُ كلّما مررت بمحطة الجيزة أُحسّ أنّه كان لي ذلك الوطن الذي كان في "بلكونة" قديمة لم أعُد أراها.

الوطن هو تلك الهواجس التي تكوّنت في داخلنا مع عذاباتنا، وليست تلك الأغنيات التي أنطقتها السلطات بالسوط، فخرجت من أفواه المطربين والمطربات. الوطن الذي نحبُّ هو تلك الأحلام والأشياء الجميلة التي عاشت معنا ولم نُفرّط فيها، حاضرة أم غائبة، أم جرى تغييبها عنّا بفعل فاعل.

الوطن نائم تحت ضلوعنا من غير سلطة أو خوف أو نِفَاق، فهو يُشبه دموعنَا تماماً، ونحن نبكي فقط من أجلنا نحن، لا من أجل "كارنيه" الحزب أو بعثة الحزب أو مكاسب اللجان أو السفر أو الجوائز أو الشلّة أو الثناء،... إلى آخره، نحن نحبّ وطن أرواحنا الذي تعبنا فيه وحرسناه في داخلنا، حرسناه من أخطائنا وخطايانا ونَزَقِنَا من أجل أنفسنا، وليس من أجل أحد كان، أيّ أحد، وذلك هو الذي أظنه يبقى لنا من محبّة الوطن.

ذلك الوطن الذي نراه في لحظات الصدق، ونراه في رائحة أولادنا حتى وإن قسوا علينا، ونراه أيضاً في حبيباتنا ونراه في الشجر الذي كان نابتاً بإهمال على حواف "الترع" ومحمّلاً بالزهر الجميل الذي ليس له رائحة كشجر السنط أو السيسبان أو الكافور، وكان ذلك الزهر يشبه تماماً أحلامنا ويشبه بيوتنا البسيطة وصحبتنا.

الوطن هو سرّنا الحميم، سرّ أن نواصل الحياة، ونتسامح وننظر إلى السماء فنرى طيورَنا التي تحنو على ما صبرنا عليه وما سوف نصبر عليه في أيامنا، لم نطلب من الوطن أيّ شيء، سوى أن يحافظ على حسن مودّتنا، لا نريد منه أيّ شيء آخر، سوى أن يتركنا في راحة قبورنا أو عزلتنا، لا نريد مسلّاته، ولا صولجانه، ولا دباباته، ولا طائراته، ولا أغنياته. فقط، أن يتركنا لأحوالنا وحرّياتنا وكرامتنا وجنوننا وقبورنا وطيورنا وكتبنا وأقلامنا وشبابيكنا القديمة. لا نحبُّ هؤلاء العواذل الذين يقفون ما بين المرء ووطنه، ما بين القلب ونبضه، وما بين السرّ وصاحب السرّ.

الوطن أن نمشي بحرّية وأن نعمل بحرّية وأن نتذكر أحبّتنا، الوطن غير ذلك السجن، السجون للعقاب والوطن للأحبّة، كل السجون تُزال أو تُنسى، فقط يبقى الوطن الذي يصلح لأن يكون هو حبيبك، حبيب سرّك، وحبيب أولادك، وحبيب ما تكتبه، وغير ذلك لا يسمى بالوطن، حتى وإن كان في شكل بيت جميل يشعر صاحبه أنّه قد فقد حرّيته أو كرامته من أجل اكتماله، فعشّ عصفور بجوار عرقِ خشبٍ لبيتٍ قديمٍ أكثر حنواً على ذلك العصفور من ذلك البيت الجميل أو تلك القصور.