في الوقت

في الوقت

07 يناير 2018

هناك من ينفد رصيد عمره فجأة (Getty)

+ الخط -
قابلت صديقا قديما لدقائق، قبل أن أعتذر منه لاضطراري للهرولة قبل موعد السجن المسائي في قسم الشرطة الذي يجب تنفيذه كل يوم، فالتأخير عن موعد المراقبة والسجن المسائي تحت أي ظرف يتم مقابلته بالحبس الفوري، ثم الإحالة إلى المحاكمة بتهمة الهروب من المراقبة، ثم التكدير أياما حتى إثبات العكس. تعجب صديقي من يومي الذي يشبه هرولة سندريلا في الحفلة قبل حلول منتصف الليل، هرولة من القسم صباحا من أجل توصيل الأطفال إلى المدرسة، ثم هرولة إلى العمل، ثم هرولة لإعادة الأطفال من المدرسة، ثم هرولة لشراء احتياجات ضرورية أو إنهاء بعض الأوراق في ظل بطء حكومي وروتين قاتل، أو هرولة لزيارات مهمة أو لمقابلة صديق أو لرعاية والدتي أو لشراء أدوية أو لطلب طبيب أو عند العودة من جلسات العلاج الكيميائي، ثم هرولة من أجل الوصول لقسم الشرطة قبل غروب الشمس، من أجل قضاء 12 ساعة في زنزانة قذرة سيئة التهوية.
قال إن يومي يشبه فيلم خيال علمي، اسمه In Time، عن المستقبل في إطار خيالي بعد حدوث تطور في التكنولوجيا وعلم الجينات، إلى درجة أن الإنسان لا يشيخ بعد سن 25 عاما مهما عاش بعد ذلك، فيحتفظ بمظهر وصحة هذا السن مهما مر عليه من الزمن. وهذا رائع، لكن الفيلم لا يجعله مجانا، وإلا لازدحم البشر على الكوكب من كثرة التناسل بلا موت وفناء، فتم وضع نظام عالمي اعتبروه حلا للمشكلة، وهي منح المرء عاما رصيدا احتياطيا بعد سن الخامسة والعشرين، وعليه أن يعمل لزيادة رصيده/ عمره، فمن يعمل ويكسب دقائق وأياما في المقابل على ذلك يستطيع العيش سنوات طويلة بالمظهر الشاب نفسه، ومن لا يعمل بالقدر الكافي يموت.
ولم يكن الأمر بهذه البساطة، فقد أصبح الوقت هو العملة، وأصبح لكل إنسان "عدّاد" زمني 
مزروع في يده، يبدأ العد التنازلي بمجرد لحظة الولادة، وأصبح الراتب هو الوقت، والعملة هي الوقت، فلكي تؤجر منزلا عليك أن تدفع من رصيد الوقت لديك، من عمرك. ولكي تتعلم أو تركب مواصلات أو تشتري طعاما أو تحصل على العلاج أو تذهب إلى النادي، أو أماكن الترفيه، لا بد من الخصم من وقتك/ عمرك في مقابل ذلك. وبالتالي هناك من ينفد رصيد عمره فجأة ويموت في مكانه، بسبب زيادة الضرائب، أو ارتفاع الأسعار، أو بسبب المرض البسيط، أو بسبب تكاسله أو إهمال العمل أو الانغماس في الملذات، وهناك من ينفد رصيده ويموت، بسبب الإفراط في النوم في أحد الأيام، أو تأخره عن الوصول إلى العمل في الموعد المحدّد، وأصبح هناك أيضا عصابات لسرقة الوقت أو أعمار الآخرين، عن طريق السطو المسلح أو النصب والتحايل، أو عن طريق الابتزاز والاستغلال.
لم يكن الفيلم فقط يصور حياة السرعة وفكرة اللهث من أجل لقمة العيش، أو من أجل البقاء على قيد الحياة في تلك القصة الخيالية، ولكن أيضا كان يحمل رسالة لإدانة النظام العالمي، وإدانة الرأسمالية الجشعة وسياسات النيوليبرالية، فالأغلبية تنتهي حياتهم فجأة، بسبب نفاد 
الوقت، على الرغم من العمل المتواصل والشقاء وغلاء الأسعار وغياب العدالة الاجتماعية، في حين أن هناك أقلية من البشر تتراكم ثرواتهم من الأعوام والشهور والدقائق والثواني بدون مجهود يذكر، رجال أعمال وعائلات يتحكّمون في المنظومة والأسعار والتشريعات والضرائب والسياسات الاقتصادية، وتتراكم خزانات الوقت لديهم، فيما تنتهي أعمار الفقراء فجأة بسبب العجز عن دفع الضريبة والزيادات المفروضة. إنها نظرية فائض القيمة التي تتحدّث عنها الماركسية، فقد أدت المنظومة الاستغلالية التي كانت تحكم العالم إلى قيام ثورة اجتماعية ضدها، أعادت توزيع الثروة/ الوقت، فثار الفقراء، وهاجموا البنوك والقصور لسرقة خزائن الوقت، وإعادة توزيع الأعمار مرة أخرى بالتساوي، بعد وفاة أم بطل الفيلم، عندما كانت تملك ساعتين فقط في عمرها، وفوجئت أن تذكرة الأتوبيس أصبحت تساوي ثلاث ساعات من العمر، فماتت في الطريق قبل أن يقابلها ابنها ويعيد شحن رصيدها بثانيتين.
أفكار كثيرة أثارها الفيلم لديّ، ففكرة الهرولة الدائمة قبل نفاد الوقت، والتضحية بأشياء مهمة أحيانا لتحقيق أشياء أكثر أهمية في الفترة المحدودة. وهذا قانون المراقبة في مصر، تمت صياغته في أربعينيات القرن الماضي، من أجل مراقبة اللصوص والبلطجية ليلا، وأصبح يتم استخدامه سجنا مسائيا، وللتنكيل بمعارضين.
تساؤلات بشأن فكرة أن يتم فرض نظام ما على مجموعة ما من البشر، قواعد سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تنظم حياتهم قد تكون جديدة، وربما ظالمة، يبدأ الناس في الاعتراض والتململ في البداية، حتي يصبح هذا النظام أمرا واقعا، يتم فرضه بالقوة سواء العسكرية أو الدينية أو كليهما، وبعد عدة عقود أو قرون إذا تحدث أحدهم أنه يمكن تغيير تلك المنظومة لاعتبره الآخرون مجنونا، ثم تحدث الثورة فجأة بعد تراكمات عديدة سنوات طويلة، لا أتحدث فقط عن الإمبريالية أو الرأسمالية المتوحشة، أو سياسات النيوليبراليزم التي تزيد الناس فقرا ومعاناة في صالح أقليةٍ، تتحكم في كل شيء، ولكن أيضا يمكن القول إنه منذ مائة عام لو كان هناك من زعم أن ثورة ستقوم في روسيا ضد القيصر، لاتهموه وقتها بالجنون. ومنذ أربعين عاما، لو كان هناك من زعم أن الاتحاد السوفيتي سينهار فجأة، لسخروا منه في الشوارع أو اختفى في معتقلات سيبيريا، وكذلك الحال للممالك والإمبراطوريات القديمة والحديثة، والديكتاتوريات كذلك إلى زوال، مهما طال الوقت.
لا يجب أن نيأس من التغيير أو نفقد الأمل، مهما كان الواقع مريرا، فيوما وبعد أحد الأحداث، سوف تتولد الشرارة مرة أخرى، وتدور العجلة.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017