وفاة عاكف.. شاهد على تردّي مصر

وفاة عاكف.. شاهد على تردّي مصر

29 سبتمبر 2017

ماطلت سلطات السجن في نقل عاكف إلى المستشفى(28/2/2015/فرانس برس)

+ الخط -
سقط كثيرون في فخ تسييس وفاة الأستاذ محمد مهدي عاكف، رحمه الله، وملابسات تشييع جثمانه، على أساس أنه مرشد عام سابق لجماعة الإخوان المسلمين، ورمز وقيادي فيها إلى يوم وفاته، الأسبوع الماضي، في حين أن قليلين انتبهوا إلى أن المسألة لا تنحصر في رمزية الرجل فحسب، بل إنها تتعلق أكثر بالتوحش الرسمي، والقاع الآسن الذي تعيشه مصر اليوم. عاكف، إنسان، كبير السن (توفي عن 89 عاما)، مريض، ومواطن مصري، لم يرتكب يوما جرما واحدا، بل إنه أحد من قاوموا في أربعينيات القرن الماضي الاستعمار البريطاني في مصر. بمعنى آخر، كان الرجل وطنيا بامتياز، ناضل من أجل وطنه، ولن نذكر نضاله من أجل فلسطين هنا حتى لا نثير حساسية "الشوفينيين" في مصر اليوم. قارن ذلك بسيرة رئيس الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، الذي قضى عاكف شهيدا في سجونه، فالسيسي لم يحارب يوما حربا واحدة، أما ترفيعه إلى رتبة مشير في الجيش المصري، عام 2014، فلم يكن لعمل بطولي قام به، بقدر ما أنه كان مكافأة له على انقلابه الدموي، وزيرا للدفاع، عام 2013، على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، الدكتور محمد مرسي. لم يكن السيسي يوما من أبناء الجيش المصري المقاتل، بل هو ابن مؤسسة "كامب ديفيد" العسكرية الاستثمارية لنفع جنرالاتها على حساب مصر وشعبها، بل وحتى جندها.
لم يشفع تاريخ عاكف المشرف، مصريا أولاً، له لدى سلطات الانقلاب. بل قد يكون تاريخه المشرف ذاك هو ما قتله، فالخسيس لا يحب الكرماء، واللص لا يحب الشرفاء، والمتسكع على أبواب إسرائيل لا يحب الوطنيين الغيورين. قضى عاكف أكثر من نصف عمره، منذ عهد الملكية إلى عهد السيسي، في سجون مصر التي ضاقت بأبنائها المخلصين، وَتَفَنَّنَتْ بوأدهم 
أحياء. واضح أن عاكف كان على رأس قائمة استهداف مافيا الحكم في مصر التي عادت لتبطش بطشتها عام 2013 انتقاما من ثورة 2011 التي أسقطت واجهة حكمها، متمثلة في حسني مبارك، لكنها فشلت (أي الثورة) في اجتثاث تلك المافيا من جذورها. ولأن جماعة الإخوان المسلمين، والتي كان عاكف مرشدها السابع (2004-2010)، كانت قوة مركزية في الثورة، أثبت ذلك تفوقها الكاسح في الانتخابات البرلمانية المصرية عام 2012، ثم الرئاسية، في العام نفسه، فإنه كان لابد من كسرها، ففي كسرها، كسر للعمود الفقري لأي تغيير ذي معنى منشود في مصر.
بعد الانقلاب الدموي، في يوليو/ تموز 2013، اعتقل عاكف، الرجل المريض الطاعن في السن، وحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة "قتل وشروع في قتل" فيما يعرف بـ"أحداث مكتب الإرشاد"، عندما حاصر آلاف من مؤيدي الانقلاب المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين في المقطم، في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، قتل فيها تسعة أشخاص، ثمانية منهم من الإخوان المسلمين! ومنذ اعتقاله، في يوليو/ تموز 2013، وعاكف يعاني الأمَرَّيْنِ في سجنه. كان يعاني من ورم سرطاني في البنكرياس وتضخم في البروستات وكسر في المفصل الأيسر، وضعف في عضلة القلب، وغير ذلك. ومع ذلك، ماطلت سلطات السجن طويلا في نقله إلى المستشفى، كما أنها كثيرا ما منعت عنه الدواء، سواء في مستشفى سجن المزرعة، أو مستشفى سجن ليمان طرة، أو حتى في مستشفى القصر العيني الذي نقل إليه مطلع العام الجاري بعد انهيار حالته الصحية. وكانت ابنة عاكف، علياء، قد قالت، قبل أشهر، إنه تم منع الأدوية عن أبيها في عنبر المعتقلين في مستشفى القصر العيني، واصفة ذلك بأنه "جريمة قتل ممنهجة". دع عنك هنا أن أهله كانوا ممنوعين من زيارته غالب الأوقات.
الآن، قارن ذلك، بمعاملة "الخمس نجوم"، التي تلقاها مبارك منذ خلعه عام 2011، في 
مستشفى المعادي العسكري. مبارك هذا هو أحد أسباب الحضيض الذي تقبع فيه مصر. ومع ذلك، كان يعامل وكأنه رمز وطني يفتخر به! بل إن مبارك، المولود عام 1928، وهي السنة نفسها التي ولد فيها عاكف، وجد طريقه إلى الحرية هذا العام، على الرغم من أنه سفك دماء مصريين ودمر مصر، في حين لم تجد كل المناشدات الحقوقية والإنسانية للإفراج عن عاكف طريقها إلى آذان العسكر الصماء. وحسب جورج إسحاق، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، فإنهم قدموا أسماء كبار سن من المعتقلين في القائمة الثانية للعفو الرئاسي عن المحبوسين في يوليو/ تموز الماضي، ومن مرضى السرطان، ولكن القوائم صدرت بدون أسماء أبرز سجينين من كبار السن: محمد مهدي عاكف والقاضي محمود الخضيري (77 عاما) المحكوم عليه بالسجن ثلاث سنوات منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وأمضى مدة عقوبته، ولكن لم يتم الإفراج عنه بعد.
أبعد من ذلك، ثمّة من سهل من داخل نظام السيسي، في مايو/ أيار الماضي، الهرب لوزير الداخلية الأسبق، زمن حكم مبارك، حبيب العادلي، المدان بقضايا الفساد.
كل التنكيل الذي أوقعته سلطات الانقلاب في مصر بحق عاكف حياً يبدو أنه لم يشف غليلها وحقدها، فكان أن أرادوا التنكيل به وبأهله ميتا، فالرجل الذي توفي الجمعة الماضية، أُخذ جثمانه إلى المقبرة بحراسة أمنية مشددة بحدود الساعة الواحدة من صباح السبت الماضي. وحسب محامي عاكف، فـ"إن الجهات الأمنية فرضت سياجاً أمنياً في محيط مقبرة عاكف، ولم تسمح بدخول أحد لمنطقة الدفن سوى لأربعة أشخاص هم زوجته وابنته وحفيده وأنا". وأضاف في تصريحات لوكالة قدس برس أنه "تم منع عشرات آخرين من المشاركة في تشييع الجثمان أو حتى الاقتراب من منطقة الدفن؛ حيث ظلّوا واقفين خارج المكان، حتى انتهاء عملية الدفن في الساعة الثانية فجرا". إذا لم يكن هذا انتقاما ووحشية وانعدام إنسانية، فماذا يكون إذن؟
في مصر نظاما عدالة، واحد للصوص البلد وناهبيها وسافكي دماء أهلها ومدمريها، وآخر لأبنائها المستضعفين وشرفائها. تُعامل الفئة الأولى بـ"إنسانية" وتفضيل، أما الأخرى فتسحق سحقا. إن انفجارا في مصر قادم لا محالة. لن تكون بالضرورة ثورة تصحيحية، بقدر ما قد تكون إعصارا مدمرا، اللهم إلا أن ينجح عقلاؤها (أي مصر) في إنقاذها قبل أن تقع الواقعة.