ماذا لو لم يكن مرسي إسلامياً؟

ماذا لو لم يكن مرسي إسلامياً؟

25 نوفمبر 2016

مرسي أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في مصر(20/3/2013/فرانس برس)

+ الخط -
لنكن صرحاء، لو أن الرئيس المدني الأول المنتخب ديمقراطياً في تاريخ مصر، محمد مرسي، كان غير إسلامي، أكان وجد هذا الجفاء وهذا التجاهل، بل والتسويغ من كثيرين، لما وقع من انقلاب عسكري عليه نهاية يونيو/حزيران 2013؟ الجواب من دون تردد ولا مقدمات: لا. بل على العكس، لو كان مرسي غير إسلامي، لوجدت كثيرين (ليس الكل) من زاعمي الليبرالية وَدَعيي "النضال" من اليساريين العرب، فضلاً عن جُلِّ الغرب المتشدق بالديمقراطية، من دون أن تتجاوز حناجرهم، عندما يتعلق الأمر بغير سلالة العرق الأبيض، يقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، ولكان تحوّل إلى أيقونة حرية، وصُنعت له تماثيل، وَمُجِّدَ شعراً ونثراً، وعُقدت عنه ندوات فكرية وسياسية. هذه هي الحقيقة، مهما جادل المجادلون في محاولةٍ لإخفاء ضحالة مواقفهم الأخلاقية والفكرية.
هذا لا يعني أن فترة رئاسة مرسي لم تشهد أخطاء كثيرة وكبيرة، كما لا تعني أنه كان الأكثر تأهيلاً للرئاسة حينها، ولكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً. لقد وصل مرسي، عام 2012، إلى كرسي رئاسة دولةٍ تعيش فساداً وقمعاً تحت دكتاتورية عسكرية منذ عقود طويلة، وهو ما كان له، ولمن مثله، أن يصل إلى ذلك الموقع، لولا ثورة شعبية أسقطت مستبداً عام 2011. وصل مرسي إلى الرئاسة بشق الأنفس، عبر انتخابات حرة ديمقراطية، وعبر تحالفات تجاوزت الانتماءات الإيديولوجية والسياسية والحزبية، ولم يحصل على أكثر من 51.7% من الأصوات، كاسراً بذلك قاعدة التسعات الأربع في انتخاب الزعماء العرب، أو نسبة التسعينات في المائة من الأصوات، إن أراد بعضهم أن يتواضع خجلا مُتَصَنَّعاً، كما فعل خلفه المُنْقَلِبُ، الجنرال عبد الفتاح السيسي، عندما حصل على نسبة 96.7% في انتخابات رئاسة 2014. لقد ضيّع المصريون، بكل ألوانهم وانتماءاتهم ومشاربهم، ثورتهم بخلافاتهم البينية وتنافسهم على المناصب واقتسام الكعكة، حتى قبل أن تنتصر الثورة، فكان أن قامت دولة القمع والفساد العميقة بثورة مضادة، أعادت الأمور إلى نصاب السوء المُتَجَذِّرِ منذ عقود، والذي لم ينهر يوماً، وإن كان ترنح قليلا خلال ثورة 2011.
يحكم السيسي مصر، رسميا، منذ قرابة عامين ونصف العام، ومنذ ذلك الحين، ومصر تتراجع
على كل الصعد، اجتماعيا، وثقافيا، واقتصاديا، وسياسيا، وأمنيا، ودوليا. مصر اليوم أقرب إلى حقل قشٍّ يابس في قَيْظِ صيف، وأي عود ثقابٍ كفيل بإشعاله وحرقه عن بكرة أبيه. بل إن مصر تحت حكم السيسي تحولت إلى سوق نخاسة، يُضارِبُ فيه الأجانب، عرباً وعجماً، على مواقفها ويحاولون شراءها. ولذلك، ترى نظام السيسي يميل حيث مال المال والقوة. في مصر السيسي، تباع أراضي الدولة، مثل جزيرتي تيران وصنافير، وتشترى المواقف، كما في سورية، وَيُخانُ الحلفاء، كما في اليمن، وتنتهك السيادة، كما في سيناء. مصر اليوم مصدر إلهام لطغاة العرب، وللدول السائرة على طريق الفشل كذلك. هذه هي مصر السيسي، والتي هي نسخة مزيدة ومنقحة عن دولة فساد حسني مبارك وقمعه التي ثار ضدها الشعب المصري. وبينهما كانت تجربة مرسي التي وُئدت في عامها الأول، ولربما كانت تحمل أملا لمصر ومستقبلا أفضل.
لم يمثل مرسي استثناءً في الرئاسة من حيث مدنيته وانتخابه ديمقراطياً فحسب، بل إنه مثل استثناءً كذلك من حيث شخصيته وتواضعه ونزاهته وعروبيته. لم يحرص على البهرجة، بل مقتها ورفضها، ولم ينخرط في الفساد، بل حاربه، ولم يسع إلى كبت الحريات، بل دافع عنها، ولم يتورّط في سفك الدماء، بقدر ما أنه انتهى ضحية منطق الحفاظ على سلمية الثورة. أيضا، كان مرسي وفياً لقضايا أمته، فوقف مع الشعبين الفلسطيني والسوري في محنتيهما، فقام بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، ووقف معه ضد عدوان إسرائيل عام 2012، على الرغم من ضغط الجيش وأجهزة الأمن وتآمرهما عليه في ذلك، كما حاول أن يعين الشعب السوري في ثورته على جلاده، غير أن "الدولة العميقة" أفشلته. حتى ضيافته للاجئين السوريين ردها الانقلابيون وأهانوهم شَرَّ إهانة. بل إن مرسي وقف مع الأمن القومي الخليجي أمام طموحات إيران وأطماعها التوسعية، على الرغم من معرفته أن بعضا من دول الخليج كانت منخرطة في التآمر عليه، ومحاولة إسقاطه، وهي الجهود التي آتت أكلها في المحصلة. واليوم، استوعب بعض حلفاء السيسي من الخليجيين، ممن دعموا انقلابه، أنه من ما "رُزٍّ"، مهما كثر، كفيلٌ بإشباع جشع السيسي ومنظومة فساده.
خلال رئاسة مرسي، تخصص الغالب الأعم من الإعلام المصري في تلقف أخطائه، وما صوّروها سقطاته. جعلوا منه مادةً للسخرية، بغير وجه حق، وسلطوا عليه مدافع التشويه
والإهانة. ومع ذلك، بقي دوما محافظا على هدوئه واتزانه. مرة أخرى، هذا لا يعني أنه لم يكن لمرسي أخطاء في الحكم، كطريقة إخراج الإعلان الدستوري أواخر عام 2012، غير أنه أراد حماية الثورة من تغوّل منظومة الفساد المُتَحَكِّمَةِ في مصر، وهو ما كان ليفعل ذلك لو أن "حلفاء" الثورة في الأمس وقفوا معه، لاستكمال ثورتهم، بدل تفضيلهم "بيادة" العسكر على نزاهة رئيس "إخواني". على أي حال، هم وقفوا مع الانقلاب ودعموه، متوهّمين، بسذاجةٍ، أن العسكر سيناولونهم الحكم بقفازٍ من حرير، لكن الحال انتهى بكثيرين منهم، مشرّدين من مصر، عاجزين عن النضال من أجل التغيير على أرضها، مكتفين بخوض معارك هوائية مع الانقلاب عن بعد، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومقالاتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع. الأدهى أن هؤلاء لا زالوا يحمّلون "الإخوان المسلمين"، ومرسي، مسؤولية ما جرى، ويتهمونهم بالسذاجة، وكأن انخداعهم بالعسكر، وكونهم كانوا وقودا لانقلابهم، كان حكمة وبعد نظر!
نعم، لم يكن مرسي رئيساً استثنائياً من حيث قدراته وكفاءته السياسية، ومن من حكام مصر، قبله وبعده كان؟ لكنه كان استثناءً من حيث أنه أول رئيس مدني يأتي ديمقراطياً إلى الحكم في مصر منذ خمسينيات القرن الماضي، كما أنه كان استثناءً في محاولته التأسيس لمصر المحكومة بإرادة شعبها ومصالحه، لا مصالح طغمةٍ مُتَحَكِّمَةَ فيه، ومصالح أجانب لا يريدون خيراً بمصر. ولمن أراد أن يفهم قيمة مرسي اليوم ونزاهته وتساميه ورحابة صدره، فلينظر إلى انحدار السيسي وفساده وسخافاته وبطشه. شتّان، شتان بين الاثنين. لا يستويان أبدا.
كثيرون من "مثقفينا" مسكونون بعقد النقص، تجدهم يمتدحون مهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا، وهما يستحقان المديح فعلا، لكن ألسنتهم تخرس، وأقلامهم تجفّ، عندما يأتي الأمر إلى رئيس عربي استثنائي، لا لشيء إلا لأنه "إسلامي"! أي عيبٍ هذا وأي عار. وبعد ذلك، نسأل لماذا لا ننتهي إلا بزعماء، مثل عبد الفتاح السيسي ومعمر القذافي من قبله؟ تُرى هل نستحق أفضل منهما ونحن، شعوبا و"مثقفين"، لا نتوقف عن إنتاج نماذجهما والتبرير لها؟