ماذا بعد انفجار شعبي قادم في مصر..؟

ماذا بعد انفجار شعبي قادم في مصر..؟

28 ابريل 2017
+ الخط -
تناقل كثيرون من معارضي نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، بغبطة، شهادات ثلاثة خبراء أميركيين في شؤون منطقة الشرق الأوسط، في جلسة استماع عقدتها اللجنة الفرعية للاعتمادات في مجلس الشيوخ الأميركي، رسموا خلالها صورةً كئيبةً للأوضاع في مصر. المشكلة، أن المعارضين أنفسهم الذين تراقصوا طربا أمام فشل السيسي في حكم مصر، وبدأ الحديث أميركيا، بصوت عال، عن ضرورة إعادة تقويم العلاقة مع نظامه، لا يقدّمون لنا أجوبة حول كيف سيتعاملون مع مثل هذا الانفجار الشعبي، لو وقع، مترافقا مع مقاربة أميركية جديدة، قد تَرْسي على التخفف من حمل السيسي الثقيل. 

جلسة الاستماع المعنية هنا كانت يوم الثلاثاء الماضي (25/4)، وضمت مديرة برنامج الشرق الأوسط في معهد كارنيجي، والمسؤولة السابقة في وزارة الخارجية، ميشيل دون، والباحث في مركز الدراسات الشرق أوسطية في مجلس العلاقات الخارجية، والمسؤول السابق في إدارة جورج بوش الابن، إليوت إبرامز، بالإضافة إلى مساعد وزير الخارجية السّابق لشؤون حقوق الإنسان في عهد الرّئيس باراك أوباما، توم مالينوسكي. وقد أجمع ثلاثتهم، ووافق معهم كثيرون من أعضاء لجنة مجلس الشيوخ، من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، وفي مقدمتهم رئيس اللجنة، السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، بأن مصر اليوم تقف على أبواب انفجار شعبي، يبدو حتميا، خلال سنوات قليلة، ودعوا إدارة الرئيس، دونالد ترامب، إلى أن تربط المساعدات الخارجية لمصر بأوضاع حقوق الإنسان فيها.
تحدث الخبراء الثلاثة بإسهاب، عما نعرفه جميعا، عن الأوضاع الكارثية في مصر، والتي 
تفاقمت مراتٍ عدة تحت حكم السيسي، بعد انقلابه صيف عام 2013. فمن الانفجار السكاني، إلى الركود الاقتصادي، فالبطالة المتصاعدة، والارتفاع الجنوني للأسعار، وصولا إلى الهيكلية البيروقراطية المُعَوِّقَةِ والفساد المتفاقم في مصر. ولم يتوقف توصيف الوضع الكارثي في البلاد عند ذلك الحد، إذ شمل أيضا الحديث عن دور مؤسسة الجيش في الفساد المطلق، وَتَحَكُّمِها في مفاصل الاقتصاد المصري لصالح جنرالاتها والمتعاونين معهم، في حين، لا ينعكس ذلك إيجابا، على الشعب والاقتصاد المصريين. إلا أن أهم ما في الشهادات الثلاث تمثل بربط ملف حقوق الإنسان المُزْري في مصر بملف الإرهاب المنفلت هناك. وكان لافتا اتفاق الثلاثة على أن الانتهاكات الجسيمة التي تجري بحق الإنسان المصري، سواء فيما يتعلق بالاعتقالات التعسفية لعشرات الآلاف من المصريين، أم التعذيب، والقتل خارج القضاء، وكبت الحريات، وقمع أهالي سيناء، كلها عوامل، تضاف إلى ما سبق، في تصاعد الإرهاب والتجنيد له، وفي تهيئة الأرضية لانفجار كبير في مصر. وخلص الثلاثة إلى ضرورة ربط المساعدات الأميركية لمصر بتحسن ملف حقوق الإنسان. بل إن إبرامز، وهو جمهوري محسوبٌ على تيار المحافظين الجدد، ذهب إلى أبعد من ذلك، بتأكيده أن مصر لم تعد دولة مؤثرة، عربيا وإقليميا، كما كانت في السابق، وبالتالي ينبغي إعادة النظر في حجم المساعدات العسكرية الأميركية لها، والتي تبلغ 1.3 مليار دولار سنويا.
كل ما سبق نعرفه، ويعرفه كذلك المعارضون لنظام السيسي. ولكن، هَبْ أن ثورة شعبية قامت في مصر اليوم، فهل تملك المعارضة رؤية ومشروعا للتعامل معها وتوجيهها؟ شخصيا لا أظن ذلك، إذ لا توجد مؤشرات على مثل هذا الأمر.
بداية، ينبغي الاعتراف أن ثورة محتملة، أو حتمية في مصر، إنما ستكون ثورة جياع، والانفجار سيكون على أرضيةٍ اقتصاديةٍ بالدرجة الأولى. في وَعْيِ المواطن المصري العادي فإن كل التوصيف السابق لأزمات مصر، من فساد وفقر وكبت وقمع وقتل.. إلخ، يصب في خانة واحدة، وهي قوته وقوت عياله. هذا لا يعني أنه لا يريد الحرية، ولا يرنو لها، بل إنه، كما أي إنسان عربي، يطمح إلى الانعتاق من إسار القمع والتخلف. ولكن، إن كنا تعلمنا شيئا من الثورات العربية عام 2011، فهو أن شعوبنا، بقدر ما ترنو إلى الحرية والكرامة، فإنها كذلك تبحث عن الأمن والاستقرار. ومن أسفٍ، أفلح معسكر البطش العربي في أن يُهَنْدسَ، خلال الثورات، فوضى وقلاقل أثرت على أمن المواطن العربي وجيبه مباشرة، وذلك لوضعه أمام خيارين أحلاهما مُرُّ، إما الحرية فالفوضى أو القمع فالاستقرار. المشكلة، أننا نعلم اليوم يقينا، أن الاستقرار الموهوم، المبني على القمع والفساد، لم يمنع الفوضى أبدا، ولم يأت باستقرار حقيقي.
في مقابل هَندسَة النظام الرسمي العربي للفوضى والقلاقل، لم تنجح المعارضات العربية، بكل ألوانها وتفريعاتها، من إسلاميةٍ وعلمانيةٍ وقوميةٍ ووطنيةٍ وليبراليةٍ ويسارية.. لم تفلح في 
صياغة مقاربةٍ تقنع الشعوب أن طريق تحقيق الاستقرار والنهوض من ارتكاساتنا لا يتحقق إلا عبر سنواتٍ من التضحيات الجسام في معركة اجتثاثٍ مع بنى الفساد والتوحش والتخلف التي اسْتَحْكَمَتْ، وتحكمنا، منذ عقود. الأدهى من ذلك، أن تلك القوى تشاكست فيما بينها، واختلفت على تقسيم "كعكة الثورة"، حتى قبل أن تَسْتَمْكِنَ منها. أما ثالثة الأثافي، فكانت في استعانة بعض تلك المعارضات ببنى ما تسمى "الدولة العميقة" لتصفية الحسابات البينية بينها. هذا هو ما جرى في مصر تحديدا، عندما استعان كثير من قوى المعارضة، بما فيها بعض إسلامية، بالجيش للانقلاب على رئيس منتخبٍ ديمقراطيا، بغض النظر عن حسن إدارته. قدّم أولئك كرههم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، على أي قيم ديمقراطية زعموها، في حين ظَنَّ "الإخوان" أن شرعية الصندوق النسبية تعطيهم حق تحديد مسار بلدٍ لم تستقر فيه قيم الممارسة الديمقراطية.
إن انفجارا شعبيا على أسس اقتصادية يكون في العادة مدمرا، وما يلجم عنانه تقديم إطار سياسي واع له، وهذه وظيفة النخبة. نعلم أن مصر على طريق الانفجار في السنوات المقبلة، اللهم إلا أن يتدارك نظام السيسي ذلك بمعجزة، ولكننا، في الوقت نفسه، لا نرى إطارا سياسيا لتوجيه دفة ذلك الغضب الشعبي الهادر، وجعله بنّاءً بدل أن يكون مدمرا. غياب الإطار السياسي البناء هو نتيجة تشرذم قوى الثورة ومناكفاتها البينية. إنه نتيجة لعنادها وصلفها مجتمعة. لا أحد فيهم يريد أن يعتذر للشعب المصري، بل ولأمة العرب جمعاء، عن كيف وأدوا حلمنا الجَمَعِيِّ. كل طرف يلوم الآخر، أو الآخرين، ولا أحد يريد أن يتحمل قسطه من المسؤولية عمّا انتهينا إليه. وحتى يتحقّق ذلك، وحتى يتوقف كل طرفٍ عن التنصل من مسؤوليته عمَّا اقترفوه بحق انتفاضاتنا، وحتى يتواضعوا فيما بينهم على وضع مشروعاتٍ وطنية، توافقية لا تغالبية، لثوراتنا، فإن أي انفجار شعبي قادم، لا في مصر فحسب، بل وفي أي قطر عربي، سيكون مدمرا للأسف، ولن تلبث "الدولة العميقة" أن تستعيد زمام المبادرة. بكلمةٍ أخرى، أي أن أي ثورةٍ غير مؤطرة سياسيا وتوافقيا، ستكون جهدا ضائعا، ولكنه باهظ الثمن.