التطبيع.. ومتغيرات في المغرب وغيره

التطبيع.. ومتغيرات في المغرب وغيره

18 سبتمبر 2017
+ الخط -
عادت مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني في المغرب إلى الواجهة، بعد مشاركة مجندة سابقة في سلاح الجو الإسرائيلي في مهرجان موسيقى الجاز في طنجة بين 14 و17 سبتمبر/ أيلول الجاري. وقد أحدثت المشاركة استنكارا شعبيا واسعا، ونظمت جمعيات ومنظمات أهلية وقفاتٍ ضد حضور المغنية، ورفضا لأيٍّ من أشكال التطبيع الثقافي والفني مع الكيان الصهيوني، واعتبرت مشاركتها في فعاليات المهرجان تحديا سافرا لمشاعر المغاربة، لا سيما أنها عبرت مرارا عن افتخارها بخدمتها في الجيش الإسرائيلي بين سنتي 2000 و2002، أي خلال انتفاضة الأقصى التي ارتكب فيها هذا الجيش كثيرا من جرائمه المعلومة بحق الشعب الفلسطيني.
في الوسع القول إن تواتر زيارة إسرائيليين للمغرب بات يُشكل حالة استقطاب غير معلنة بين معسكر يتوزع على مجالات الاقتصاد والإعلام والثقافة والفن (غير واضح الملامح!)، لا يرى في التطبيع أي غضاضةٍ في ظل المتغيرات التي عرفها الصراع خلال العقود الأخيرة، ومعسكرٍ آخر تشكله أغلبية المغاربة بما عُرف عنهم من تضامن مع أشقائهم الفلسطينيين ووقوفهم إلى جانب قضيتهم العادلة.
تبدو حالة الاستقطاب هاته، والتي تعرفها معظم البلدان العربية، على صلةٍ بالمتغيرات التي عرفها هذا الصراع منذ زيارة أنور السادات القدس في العام 1977. وهي متغيرات لا تقتصر على مواقف الأنظمة الحاكمة والنخب المرتبطة بها من رأسمالٍ ومثقفين وإعلاميين، بل تتجاوزها إلى ما عرفته البنيات الذهنية والقيمية والتربوية للمجتمعات العربية.
صحيح أن تحولات موازين القوى دفعت بلدانا عربية إلى الانخراط في مسارات التسوية، وتوقيع اتفاقيات سلام، وإقامة علاقات تجارية واقتصادية مع إسرائيل، إلا أن الواجهة الشعبية للصراع ظلت أهم عقبةٍ تواجه الصهاينة في مخططاتهم لاختراق المنطقة، وتمرير مشروعهم الاستيطاني وفرض هيمنتهم، ومثلت، بالتالي، عنصر توازن حاسما في سيرورة هذا الصراع، وخصوصا بعد انهيار النظام العربي المشترك.
تتعرض هذه الواجهة الشعبية الآن لمتغيراتٍ قد لا ينتبه إليها بعضهم، ومن الخطأ الاستمرارُ في رؤية الأشياء من خلال المقولات الأرثوذوكسية للفكر القومي والإسلامي، من دون تمثل هذه المتغيرات واستيعابها. وإذا كان جائزا، فيما مضى، النظرُ إلى المجتمعات العربية باعتبارها كتلا متجانسة، في ظل التمسك بقيم الدولة الوطنية، والمشروع الوطني والاجتماعي القائم على الوحدة والتحرّر، فإن ذلك يبدو الآن قفزا على الوقائع، في ضوء تقاطبات اجتماعية
وفئوية تغذّيها نزعات مذهبية وطائفية وعرقية وانعزالية. يجب ألا ننكر أن قطاعا واسعا من الرأسمال العربي لا يرى غضاضة أو حرجا في التعامل التجاري مع نظيره الإسرائيلي بسب مصالحه وارتباطاته مع النخب الحاكمة، كما أن الثقافة والفن والإعلام باتت مجالات مفتوحة لتجريب وصفات التطبيع الشعبي.
ولعل في بيانات المؤشر العربي للعام 2016 الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ما يؤكد أن مياها كثيرة جرت وتجري تحت جسور الاجتماع والسياسية العربيين. فإذا كان 75% من المستجوَبين يرون أن القضية الفلسطينية هي قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، فإن 17% منهم اعتبروها قضية الفلسطينيين وحدهم، وعليهم العمل على حلها. وعلى صعيد الاعتراف بإسرائيل، أفادت بيانات ذات المؤشر أن 86% من المستجوبين يرفضون اعتراف بلدانهم بها، في مقابل 9% وافقوا على الاعتراف.
هذان مثالان، لكنهما على قدر كبير من الدلالة، فإذا كانا يعكسان المكانة المركزية التي تحتلها فلسطين في الوجدان الشعبي العربي، فإنهما، في الوقت نفسه، يُشيران إلى ارتفاع طفيف في نسبة الذين لا يرون خطيئةً في اعتراف بلدانهم بالكيان الصهيوني. هناك تطبيع شعبي يتم في هدوء إلى درجة أن لا أحد يحس به؛ سياحٌ ورجالُ أعمال عرب يزورون إسرائيل، ولقاءات تنعقد على أعلى المستويات بين الجانبين، وجهودٌ حثيثة تبذلها الولايات المتحدة لتغيير مناهج دراسية عربية تعتبر معادية لإسرائيل.
كان سيكون دالا للغاية، لو وجدت مغنية الجاز الإسرائيلية أمامها مقاعد فارغة في قصر مولاي حفيظ في طنجة. كان ذلك سيكون انتصارا ساحقا لمناهضي التطبيع، وصفعة للمغنية ومنظمي المهرجان ومسوّقي التطبيع، لكن المغنية لم تجد أمامها مقاعد فارغة. حضر بعض الجمهور من محبي الجاز، وممن يرون أنه لا يجوز خلط السياسة بالفن، وأن معرفة فن العدو وأدبه أفضل من جهلهما. هؤلاء يتحولون تدريجيا إلى جزء من معادلة الصراع في واجهتها الشعبية.
ليس الصراع مع إسرائيل عسكريا فقط، إنه صراع ثقافي وحضاري بواجهاتٍ متعدّدة، تتداخل فيها عواملُ السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والثقافة. هناك قادة عرب يزورون تل أبيب سرا، ولم يعد خافيا أن علاقاتٍ وثيقةً تربطهم بدوائر القرار والنفوذ في تل أبيب، وهي علاقات تحرّكها المصالح. وفي أحيان كثيرة، يكون من ورائها البحث عن منفذ، عبر الدولة العبرية، نحو دواليب السياسة العالمية، بما فيها المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية الكبرى، علاوة على تأكيدات متواترة من مسؤولين إسرائيليين على المستوى غير المسبوق الذي بلغه التعاون بين إسرائيل والبلدان العربية.
من هنا، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. والذين يراهنون على صدور قوانين تُجرم التطبيع واهمون. فليس هناك برلمان عربي (إذا كانت لدينا، فعلا، برلمانات حقيقية!) لديه الشجاعة الكافية ليقرَّ قانونا يُجرِّم التطبيع مع الصهاينة. وأقصى ما يمكن أن تسمح به الأنظمة أن تتساهل إزاء تنظيم وقفات ومسيرات مناهضة لهذا التطبيع.
يقع التطبيع مع إسرائيل ضمن متغيرات كبرى تعرفها المنطقة العربية؛ لا تسلم منها حتى صورة إسرائيل في الوجدان الشعبي العربي. لذلك، تبدو السوسيولوجيا العربية الملتزمة بقضايا أمتها مدعوة للتدخل بأبحاث ودراسات ميدانية، تكشف بعض هذه المتغيرات وتستشرف مآلاتها.