بين تاريخين إسلاميين في سورية

بين تاريخين إسلاميين في سورية

17 اغسطس 2017
+ الخط -
لم يكن مسار أحداث الصراع بين النظام السوري والإخوان المسلمين، وارتداداتها، من 1976 إلى 1982 (سوف نسميها الحالة الأولى) شبيهاً بمسار (وارتدادات) الثورة السورية التي انطلقت في مارس/ آذار 2011، وانتهت بسيطرة الجهاديين الإسلاميين (سوف نسميها الحالة الثانية)؛ وإن كانت السيطرة الإسلامية القاسم المشترك في الحالتين.
اعتمدت الحالة الأولى على استنهاض الشارع السوري بالعنف، عبر عمليات اغتيال لشخصيات ذات صلة كثيرة أو قليلة بالنظام (ضباط أو رجال علم)، لكنهم جميعاً من منبت علوي. اعتمد الفعل الإخواني، في حينه، على استجرار عدم الرضى الشعبي السوري الكامن، ودفعه عبر قنوات طائفية تنسجم مع منظورهم السياسي الذي يقول بضرورة "الحكم بما أنزل الله"، لكنه يقول، تحت هذا القول، بضرورة انتفاض أهل السنة (الأكثرية) ضد حكم العلويين (الأقلية)، فالوجود الجائز الوحيد، في منظور هذه الجماعة، هو الوجود الطائفي. كان في ذلك مصدر قوة للحركة (ملامسة عصب الهوية العالي الطاقة) ومصدر ضعف في الوقت نفسه (نفور قطاع واسع من السوريين يشمل الأقليات المذهبية في سورية وقسماً كبيراً من السنة، يضم المتنورين والعلمانيين، وغير المتعاطفين بطبعهم مع الطروحات الطائفية).
دامت فترة العمليات الفردية التي يسميها "الإخوان" المرحلة السرية، من فبراير/ شباط 1976 (اغتيال الرائد محمد غرة رئيس فرع الأمن العسكري في حماة) حتى يونيو/ حزيران 1979 (مجزرة مدرسة المدفعية في حلب). صارت الحرب مكشوفةً بين الطرفين بعد ذلك، وفقط بعد تلك المجزرة اعترف إعلام النظام بوجود عدو داخلي مسلح. وبدأ الصراع عسكرياً واستمر كذلك مع بروز مظاهر حراك شعبي محدود على هامش الفعل العسكري الأساسي.
يلاحظ من الحالة الأولى أن المجهود العسكري كان مدينياً، على عكس الحالة الثانية التي قام مجهودها العسكري على الريف ومحيط المدن أساساً. قد يكون في هذا استفادة من التجربة المدينية الفاشلة في الحالة الأولى، وإدراكاً لعدم جدوى الرهان الذي سبق أن راهن عليه عبد الستار الزعيم الذي كان على رأس جماعة الطليعة المقاتلة خلفاً لمروان حديد، وهو أن استفزاز النظام بعمليات متفرّقة سوف يدفعه إلى ممارساتٍ عنيفة ضد المجتمع، ما سوف يؤدي إلى قيام المجتمع ضد النظام، لكن الواقع قصّر كثيراً عن التوقع.
على هذا، كان المنظور العسكري، في الحالة الثانية، أطول نفساً. ولذلك، راح يؤسس لنفسه 
قواعد ارتكاز ريفية بعيدة نسبياً عن متناول يد النظام، تناسب حرباً طويلة، شبيهة بحروب المعارضات المسلحة في أميركا اللاتينية، وإن يكن بزخم أشد، وصل إلى حد السيطرة على مدن.
تضمّن هذا الفارق العسكري فارقاً في المنظور والتوقع السياسي. كان المنظور في الحالة الأولى يعتمد على قيام المجتمع ضد النظام بتحريض من "طليعة"، أي إن أساس التغيير في الحالة الأولى كان حراكاً شعبياً يحرّضه العنف. فيما انطوت الثانية على قناعة راسخة بعجز المجتمع عن التغيير، وضرورة التغيير العسكري الصرف، هذه القناعة التي عبر عنها بوضوح أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) مؤسس كتائب أحرار الشام وقائدها، تحكمت بالمجهود العسكري في الحالة الثانية، على الرغم من أن سورية شهدت، في هذه الحالة، أوسع حراك شعبي عرفته في تاريخها. المفارقة أنه حيث لم يكن هناك حراك شعبي، كان رهان "عسكريي" الحالة الأولى على الحراك الشعبي، وحيث كان ثمّة حراك شعبي واسع، كان رهان عسكريي الحالة الثانية على الحسم العسكري الصرف.
من جانب مختلف، بقيت، في الحالة الأولى، الانقسامات السياسية التقليدية في المجتمع السوري فعالة وعابرة للطوائف، بعد كل شيء. فيما تراجعت هذه الانقسامات بحدّة مع الزمن في الحالة الثانية، لتختفي وراء استقطاب حاد سار، إلى حد كبير، على تخوم الطوائف، ما خلا الطائفة السنية التي ظلت محلاً للانقسام السياسي، نظراً لحجمها الكبير، ولسوء التشكيلات السياسية العسكرية التي زعمت تمثيل السنة.
على سبيل المثال، في الحالة الأولى، ظل للمعارض السوري العلوي حضوره واحترامه أيضاً في وسطه الاجتماعي، في مقابل ملاحقة أمنية حثيثة من النظام لهؤلاء المعارضين، وممارسة قدر رهيب من العنف ضدهم، وصل إلى حد القتل تحت التعذيب. لم تكن التنظيمات السياسية التي كان ينتمي إليها هؤلاء المعارضون مهادنة للنظام، فمنها من صب كل نقده على النظام، من دون أن ينتقد الإخوان المسلمين حينها، مثل الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، ومنها من كان يرفع شعار إسقاط السلطة، كما كان حال رابطة العمل الشيوعي حتى بيان أغسطس/ آب 1980، والذي كانت غالبية قاعدة الرابطة غير راضية به. لكن بعد ذلك أيضاً، لم تهادن الرابطة، في أواخر أغسطس/ آب 1980 (أي بعد تجميد شعار إسقاط السلطة)، هاجمت صحيفتها المركزية "الراية الحمراء"، النظام في إقدامه على خطوتين فاشيتين، الأولى هي القانون 49 الذي يقضي بإعدام من ينتسب للإخوان المسلمين، والثانية مجزرة سجن تدمر التي نفذتها سرايا الدفاع بحق مئات من السجناء الإسلاميين، في ذروة شعور النظام بالتهديد عقب محاولة اغتيال حافظ الأسد. كان لهذا الخط السياسي الرافض للنظام وللإخوان المسلمين معاً امتداده العابر للطوائف، ولم يكن المدافعون العلويون عن هذا الخط خونة أو عملاء في نظر وسطهم، كما صار إليه الأمر في الحالة الثانية.
المفارقة التي تستوقف المراقب أن النشاط الطائفي الإخواني استجرّ في الحالة الأولى رد فعل 
طائفي صريح من النظام، تمثل في تشكيل جمعية المرتضى الطائفية، في حين أنه لم يستجر نكوصاً غريزياً علوياً. ولم تحظ الجمعية المذكورة بترحيب في ذلك الوسط، على الرغم من كل الامتيازات التي أغدقتها على منتسبيها، وعلى الرغم من أنها حازت على إمكانات كبيرة، وصلت إلى حد تقديم مرشحين في اللاذقية ضد مرشحي الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية عام 1981. على خلاف الأمر في الحالة الثانية التي يبدو أنها مسّت "عصب الهوية" العلوية أكثر فأكثر مع تطور الحدث، ما ولّد نكوصاً طائفياً غريزياً، وأدى بالفعل إلى جعل الانقسامات السياسية محكومةً لسقف القبول بالنظام في وجه تهديد إسلامي خطير، غير مختلف عليه.
لم تظهر في الوسط العلوي في الحالة الثانية مؤسّسة شبيهة بجمعية المرتضى. ما يعود، في ظننا، إلى أن النكوص الطائفي الغريزي في الوسط العلوي تجاوز حاجة النظام للتعبئة والحشد الطائفي، ما جعل دور مثل هذه الجمعية نافلاً، ولاسيما أن التأطير العسكري للجمهور الموالي تولته، منذ البداية، مؤسسات عسكرية، كاللجان الشعبية التي تحولت لاحقاً إلى قوات الدفاع الوطني.
في الحالة الثانية، تدخلت أجهزة الأمن، أحياناً، لضبط ردود فعل "شعبية علوية" ضد مظاهرات مناهضة للنظام، كما تدخلت أحياناً لحماية معارضين علويين من وسطهم. أما في الحالة الأولى، صار الجلادون الذين قتلوا تحت التعذيب أحد أعضاء رابطة العمل الشيوعي (محمد عبود) في اللاذقية، في ديسمبر/ كانون الأول 1980، منبوذين في وسطهم، حتى أن سيدةً خلعت حذاءها لضرب أحدهم، حين علمت أنه مشارك في تلك الجريمة.
السؤال الذي تطرحه المقارنة السابقة تلقائياً، ويحتاج إلى جهد بحثي مسؤول: لماذا، ووفق أي آليات، حدث هذا النكوص في الحالة الثانية، على الرغم من أن البعد الطائفي فيها كان أقل بكثير منه في الحالة الأولى؟
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.