انعزال الصراعات في سورية

انعزال الصراعات في سورية

09 يناير 2016

من لوحات وسام الجزائري

+ الخط -
مع فشل المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي تلاه، وباقي التشكيلات السياسية السورية المعارضة، في تشكيل قطب سياسي قادر، ويحوز على احترام الشعب السوري والعالم، ثم ونتيجة ذلك، مع بروز التنظيمات الإسلامية العسكرية الجهادية، وسيطرتها على المشهد الحربي، استقر انقسام المجتمع السوري إلى مجتمعين. انحاز أحدهما إلى النظام السوري، وبات غرضه الحفاظ على النظام كيفما كان، لأن القادم أشد ظلماً وفتكاً، والآخر انحاز إلى إسقاط النظام كيفما كان، أيضاً، لأن دوام النظام سوف يعني ارتداده على المجتمع، وتدمير كل نواة تحررية فيه. ومع مرور الوقت الذي احتضن هذه السيرورة، ماتت الحركة السياسية البينية بين المجتمعين، وتكلست حدودهما، واخترق خط الانفصال هذه المناطق والبلدات والطوائف والعائلات، وتحولت القوة والقسر المتبادل إلى الوسيلة الوحيدة للكسب بين الطرفين (النظام والإسلاميين).
تموضع في سورية صراع عسكري ذو بعد سياسي ضامر، بفعل تشابه طرفيه في الاستبداد. لم يعد في مقدور أي طرف تحقيق كسب من جمهور الطرف الآخر، فلدى جمهور كل طرف أسباب كافية للتمسك بجبهته السياسية، وكثيراً ما يكون ذلك "حتى الموت". بات هذا الصراع، بالتالي، شبيهاً إلى حد بعيد بالصراعات العضوية بين القبائل أو بالحروب بين الدول، فالحلول تسووية عادة، وكل تعاطف مع "العدو" يعتبر خيانة.
ثمة فئة واسعة من السوريين كانت تتشابه، في نظرتها السياسية والفكرية، إلى الأمور قبل اندلاع الثورة السورية، توزّعت واستقطبت في كلا المجتمعين المنعزلين. دافعت هذه الفئة دائماً عن أفكار الحرية والديمقراطية ودولة القانون ضد الاستبداد السياسي والطائفية، وتوظيف الدين في السياسة...إلخ. ولا تزال هذه الفئة الموزعة على المجتمعين تدافع عن الأفكار نفسها، على الرغم من اختلاف المواقع. من في جبهة النظام يرى أن الدفاع عن النظام هو السبيل الوحيد لصد "قطعان الفاشية" المتمثلة في التنظيمات الإسلامية الجهادية التكفيرية، ثم التفرّغ لمسائل الديمقراطية، وما إليها. ومن في الجبهة المضادة يرى أن إسقاط النظام هو الممر الإجباري إلى الديمقراطية، لأنه الممر الإجباري للخلاص من "قطعان الفاشية" التي ترى في استمرار النظام علة وجودها.
وحين يجد هؤلاء "الديمقراطيون المؤجلون" أنفسهم في ظل سيطرة زعامات أسدية، أو إسلامية جائرة، يلجأون إلى سلاح النقد والاحتجاج على السلطات القائمة في مجتمعهم، ليس فقط لأن الممارسات الجائرة تنتهك حقوق أبناء "المجتمع الواحد"، بل والأهم لأن الممارسات "الداخلية" الجائرة تعوق الانتصار على "العدو"، وتعرقل تطويع المجتمع الآخر. وطالما لم يحسم الأمر لصالح مجتمع ضد آخر، يبقى الصراع الديمقراطي والحقوقي ضمن كل مجتمع محصوراً في إطار هذا المجتمع، لا يتعداه إلى المجتمع الآخر، ويبقى محدوداً أيضاً تحت سقف سيطرة القوة الأساسية فيه، أكانت الأسدية أو الإسلامية.
فالشخص الذي يكتب من على ضفة النظام مثلاً: "حين ينتهي القتال، فقط حينها، سنعود
لترتيب أوراقنا، ونفرغ لأمور أخرى، كانت في مرة من المرات أموراً أساسية، ولكنها الآن لا قيمة لها، كالديمقراطيه وترّهاتها، حرية التعبير وما تعريفه، المواطنه وما هي. كلها أمور لا قيمة لها الآن". تراه يكتب أيضاً بعد أيام: "كنت عم حاول أكتب شي عايد عساكرنا سبب وجودنا، وإذ بلاقي رسالة على الخاص، عسكري صرلو خمس سنين راكض بهالخدمه، من محل لمحل، عسكري من درعا الحبيبه، درعا هللي ولدت منها الأزمه وهللي فيها شباب حملت الأزمه وحملت بلدها، عم يسألني: بتعرف شي حدا بأمن الدولة؟ أبي أخدوه أمن الدوله وما بعرف عنو شي، والله مريض كتير ويا دوب يشيل حالو ليعمل مشاكل، خايف أنا عليه يا حكيم، دخيلك إذا بتعرف حدا". ويُكمل بصيغة احتجاجية: "فهيك خيو، عسكري عم يخدم البلد ويمكن يستشهد بكرا أو بعد بكرا، ما بيحسن يعرف أبوه شو وضعو، ما بيحسن يشوفو، ما بيعرف إذا عايش، ولا شو تهمتو".
كيف يستقيم هذا الاحتجاج مع الكلام عن أن الديمقراطية والمواطنة وحرية التعبير لا قيمة لها حتى ينتهي القتال؟ واضح أن صاحب البوست يعتبر أن "الديمقراطية وترّهاتها" لا محل لها في العلاقة بين مجتمعه والمجتمع الآخر "الخائن والإرهابي"، لكنه يجد لديه ما يكفي من الإحساس بالظلم، حين يتعلق الأمر بانتهاكات تجري ضمن مجتمعه. على أن احتجاجه محفوف بالحذر، ذلك أن والد هذا العسكري (وهو بطبيعة الحال من مجتمع صاحب البوست) قد لا يكون من مجتمع ابنه، وقد يكون من المجتمع الآخر الذي ينبغي سحقه. في الواقع، يشعر صاحب البوست بالتعاطف مع العسكري، وليس مع الأب الذي قد يكون "خائناً".
هكذا ينعزل الصراع المطلبي والسياسي في "مجتمع الموالاة"، وهو صراع موجّه، بطبيعة الحال، ضد السلطات غير المنضبطة بأي قانون في نظام الأسد، عن الصراع المطلبي والسياسي في "مجتمع المعارضة"، وهو بطبيعة الحال موجه ضد سيطرة السلطات الإسلامية المستجدّة، والمتخلفة فكرياً وسياسياً في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. انعزال الصراعين هذا عن بعضهما من جهة، وعن أفق الخلاص من سيطرة السلطات المسيطرة فيهما هنا وهناك، يساهم في ديمومتهما، وفي ديمومة السلطات المسيطرة فيهما.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.