مقاومون وجهاديون وترامب

مقاومون وجهاديون وترامب

30 نوفمبر 2016
+ الخط -
بعد الجريمة الكبرى التي لا تزال سارية المفعول في سورية، والتي يمكن اعتبارها بحق جريمة عالمية مستمرة، لا يخفي "محور المقاومة" سعادته بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والمعروف أنه كان شديد الحماس للرئيس الأربعين لأميركا، رونالد ريغان (1980-1988)، بطل غزو جزيرة غرينادا ولبنان وحرب النجوم وفضيحة إيران غيت، ومنه استعار شعار حملته الانتخابية "لنجعل أميركا عظيمةً من جديد". وهو اليوم لا يخفي عنصريته واستخفافه بالقيم التي حازت على احترام عام بفضل النضالات الطويلة للبشرية، كاحترام التنوّع والبيئة والمرأة وحقوق الإنسان. ما سر سعادة محور المقاومة برجلٍ يهجس بالقوة والمال، إلى حد لا يبقى في نفسه مكانٌ لشيء اسمه العدالة أو التكافؤ؟ كيف يحدث أن يتفق "محورٌ مقاوم" يقول إن مضمونه العدل ومصلحة الشعوب، مع رجلٍ ينقل أخلاق السوق والمقاولات عاريةً إلى مجال السياسة؟
سبق أن استوعب المحور نفسه الدعم الروسي المقرون بالتنسيق المباشر مع إسرائيل، ومع أميركا، من دون أن يلتفت حوله، أو يتساءل عن معنى هذا التلاقي "الموضوعي" بين المقاومة وعدوها المعلن. كما لا يجد المحور إياه أي انتقاصٍ في الوطنية، حين يكون قرار استمرار الهدنة أو انتهائها في حلب قراراً روسياً، أو حين تصل القوات التركية إلى حدود الباب في حلب، بالتنسيق مع موسكو. ليس خروجاً عن السياق، إذن، أن يكون ترامب، بعنصريته الصريحة، حليفاً لقوى هذا "المحور"، الجاهزة لحرق الأوطان باسم الحقوق الوطنية.
الشرط الوحيد الذي يضعه بشار الأسد، أحد أبرز رموز هذا المحور، على "التعاون مع ترامب"، هو أن يتمكّن الأخير من الإيفاء بوعده في محاربة الإرهاب الذي يعني، في المنظومة الفكرية السياسية لنظام الأسد، كل معارضةٍ تتحدّى استبداد طغمته. لا مشكلة، إذن، مع ترامب، كما قدم نفسه للعالم، في حملة انتخابية مديدة، برع فيها في إظهار مستوىً غير مسبوق من الانحطاط السياسي والأخلاقي، وصولاً إلى السخرية من المعاقين، في لفتةٍ نازية صريحة. المشكلة أن يتمكّن جسم الإدارة المقبلة، وثقل التوازنات السياسية في أميركا من تعديل رؤيته التسلطية للعالم، الرؤية التي تجعله معجباً بالأقوياء، بعيداً عن أي ظلٍّ من العدالة. ربما يندرج استعراض حزب الله في القصير السورية، بعد خمسة أيام فقط من فوز ترامب، في سياق إثارة الإعجاب.
السؤال الذي يتردّد بلا شك في ذهن "جمهور المقاومة": ما العيب في أن يستفيد "محور
المقاومة" من ترامب ومن غير ترامب، ومن روسيا وغير روسيا، من أجل هزيمة قوى "جهاديةٍ" عمياء ذات ارتباطاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، حطمت الثورة السورية، وأحالتها إلى مدخلٍ للطعن في "المقاومة" وفي "صمود" سورية؟
غير أن السؤال السابق يثير على الفور سؤالاً مقابلاً: كيف يمكن لترامب وإدارته أن يدعما "محوراً" يعتبرهم "الشيطان الأعظم"، أو أن يساندوا "صموداً" و"ممانعةً" يفترض أنهما يستهدفان عرقلة سياستهم ومشاريعهم في المنطقة؟ أو بطريقةٍ معكوسة: كيف يمكن أن يساند ترامب العنصري قوىً تتكلم بالحقوق والعدالة؟ إما أن عنصرية ترامب عادلة، أو أن هذا المحور لا تهمه العدالة.
يزول الغموض، حين ندرك المسافة الواسعة بين المصلحة الوطنية لسورية ومصلحة النظام الأسدي. هذه المسافة التي تعمل الماكينة الدعائية للنظام ولمحور المقاومة على إخفائها، وإيجاد الوهم بأنهما مصلحة واحدة، وذلك بالمطابقة بين مفهومي "نظام الأسد" و"الدولة السورية" التي يفترض أنها تمثل وتعمل على حماية المصلحة الوطنية السورية. وعليه، فإن السعادة بفوز ترامب، وتقاطع المصالح مع "إيران" ومع "إسرائيل" أيضاً، والمساهمة المستمرة في إيصال الحال السورية إلى ما هي عليه، أمرٌ ينبع من مصلحة النظام الأسدي، وليس من أي مصلحة وطنية، أو أي مصلحةٍ "لمحور مقاومة" ممتلئ حقاً بمعناه.
المختصر المفيد أن ترامب حليفٌ لمحور المقاومة المزعوم، بقدر ما يكون وسيلةً في الحفاظ على نظام الأسد. لا تغير في هذا الحلف الموضوعي عنصرية ترامب تجاه المسلمين، أو تعهده بنقل سفارته في إسرائيل إلى القدس. بقاء "محور المقاومة" أهم من أي شيء، أهم من
"المقاومة" نفسها، أهم من رسوخ الاحتلال، وأهم من بروز هذا المحور قوة بطشٍ تفوقت على إسرائيل، وأهم من مساهمة هذا المحور في دفع الشعب السوري إلى الاستنجاد بالشياطين.
يبقى أن نقد "محور المقاومة" وكشف انزياحه الكبير عن الموقع الذي يزعمُه لنفسه، لا يتضمن قبولاً بالإسلاميين الذين يقفون منه على الطرف الآخر من المتراس، أو تبرئةً لارتباطاتهم وتزكية لمشاريعهم. الحق إن انزياح الجهاديين الإسلاميين عن الموقع الذي يزعمونه لأنفسهم، باعتبارهم خلفاء الله على الأرض، وما يستدعي هذا الزعم من لواحق، يشبه انزياح "محور المقاومة" عن معنى المقاومة ومضمونها. وما رفع الصوت عالياً هنا وهناك باسم الله أو الوطن، سوى تغطية واعية على خيانة الله والوطن.
النجاح الذي حققه ويحققه "محور المقاومة" في كسب جمهورٍ واسع يقبل به، يعتمد، في الواقع، على النجاح الذي حققته وتحققه القوى الجهادية في كسب جمهورٍ واسعٍ يقبل بها. العلاقة بين النجاحين متبادلة، ما يعني أن المعركة الفكرية ضد هذين التضليلين واحدة. هذا يقول، إذن، إن السكوت عن أيٍّ من التضليلين يعني تكريسهما معاً. وهو بالضبط الخلل الذي وقعت فيه القوى الديموقراطية السورية. من الموقع الديموقراطي فقط، يمكن رؤية التضليلين، الإسلامي والأسدي معاً، ومنه فقط يمكن كشف ارتباطهما واعتمادهما المتبادل. التخلي عن هذا الموقع الديموقراطي، بأمل استعادته لاحقاً، هو بداية لخسارة نهائية.
يثير التأمل أن يكون "لمحور المقاومة" جمهورٌ غير قليل حتى الآن، بعد أن ساهم، ويساهم، بنشاط في إيصال سورية إلى تخوم الزوال. وفي الوقت عينه، تدفع إلى التفكير شعبية الجهاديين الإسلاميين الذين لا يملكون أي أفق سياسي، وتمتلئ سجلاتهم بشتى صنوف الجرائم، ليس فقط بحقّ مدنيين محسوبين على النظام، بل وبحقّ جمهورهم نفسه، وبحق بعضهم بعضاً. يبدو كل طرف منهما مأخوذاً بمعزل عن الطرف الآخر، في منزلةٍ لا يمكن لجمهور أن يقبلها راضياً. الأمر الذي يعزّز النتيجة إياها، وهي إن قوة كل طرفٍ تعتمد ليس فقط على وجود الطرف الآخر، بل وعلى قوته أيضاً.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.