بائع الجرائم

بائع الجرائم

04 يوليو 2017

(Getty)

+ الخط -
أخيرًا، وبعد أن أوشكت الصحافة الورقية العربية على الانقراض، في وسعي أنا (بائع الجرائد) أن أدوّن اعترافاتي كاملة، بأني أنا المدعو ورقة بن ورقة، هو ذلك (المجرم) الحقيقي الذي يتحمّل مسؤولية انقراضها.
أعلم أن هذا الاعتراف صادمٌ لكم، فآخر ما يتوقعه أناسٌ مثلكم، مسكونون بنظريات المؤامرة، وتضخيم الأعداء، أن يكون نكرةٌ مثلي سببًا في انقراض هذه الإمبراطوريات الورقية الضخمة، التي بنت أحرفها على حناجر أمثالي، فنحن كنا الحلقة الأخيرة والأهم، في تلك الماكنة الضخمة، ولولا نداءاتنا وصراخاتنا على أسماء الجرائد في الشوارع، وعلى المنعطفات وإشارات المرور، لما استقرّت صحفكم في أيدي قرائها.
عمومًا، لن أطيل عليكم. لكن، لا بد من سردٍ مختصرٍ للبداية، أو (تدوين خلفيةٍ للخبر)، على غرار ما يفعله محرّرو صحفكم، لكي يتاح للمطلعين على هذا الاعتراف معرفة السبب وراء (الجريمة).
ينبغي الاعتراف، أولاً، بأن إقبالي على هذه الوظيفة لم يكن اضطرارًا، بل خيارًا، ولا أدري إذا كان سوء طالعي دفعني إلى هذا الخيار أيام المدّ القومي وخطب جمال عبد الناصر، وحروب الاستقلال، فقد كنت أبحث عن أي "دورٍ"، مهما بدا بسيطًا، للمساهمة في هذا المد، وتعميم الأمل في نفوس شعوبٍ عربيةٍ تائقة للتحرّر، فكنت أحملُ رزمة الجرائد، كمن يحمل مشعل الأمل، وأنادي لا بأسمائها، بل بأهم أخبارها: "حبيب الملايين يهدّد بمحو إسرائيل عن الوجود"، "بلد المليون ونصف المليون شهيد حرّ".. "إعلان الوحدة بين سورية ومصر"، "عملية نوعية في قلب تل أبيب".. ومع كل خبرٍ، كنت أضيفُ "بهاراتٍ" رأيتها ضروريةً لا لترويج الصحيفة، بل رغبةً بأن يقرأ الناس أخبار بلادهم الموشكة على صنع "المعجزات"، أو هكذا ظننتُ، في تلك الأيام المفعمة بالحماسة، وبـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
كنت أشعر بفخرٍ ذاتيّ، مبعثه أنني أساهم، وأنا بائع جرائد، في المجهود الحربي والقومي والتحرّري. ولم يكن دوري يقل عن دور الجندي المرابط في الخنادق، ولم يكن يراودني أي إحساسٍ بأنني "مخدوع"، إلا حين بدأ يتكشّف غبار الحماسة، عن نكسة يونيو/ حزيران 1967، وعن انهيار مشروع الوحدة بين مصر وسورية. آنذاك، بدأ يخفت صوت نداءاتي على رزم الصحف التي كنت أحملها، ولم أعد أروّج الخبر ذاته، بل صرت أكتفي بأسماء الصحف ذاتها: "الثورة"، "الجمهورية"، "القادسية".. إلخ، لكن من دون أن أفقد الأمل تمامًا، إذ كنت لم أزل بعد مؤمنًا بزعمائي، وبأن ما يحدث مجرّد سحابة صيف عابرة، ولا بد أن تسترد الأمة وهجها.
غير أن الانتكاسات العربية المتتابعة، وما تلاها من انكماشاتٍ قُطرية، وتفشّي الاستبداد وتقديس الزعيم، والتي جاءت للتغطية على الهزائم والتخلف، قلبت كل معاييري، إذ صرتُ أشعر بأني مروّج هذه الآفات، ومسوّق الخديعة، خصوصًا وأنا ألمحُ أخبار الزعيم تتصدّر الصفحة الأولى يوميًا، للحديث عن "نشاطاته"، وتحرّكاته، و"إنجازاته"، التي لا تنتهي إلى ما بعد يوم القيامة.
آنذاك، فقط، أحسستُ أنني أصبحتُ جزءًا مهمّا، لا من آلة التحرّر هذه المرة، بل من آلة الاستبداد الضخمة، التي باتت تسحق كل شيء أمامها، فازددتُ انكماشًا على رزم الصحف التي أحملها يوميًا، كمن يحمل جثةً لا يجد لها قبرًا، إلى أن قرّرتُ التمرّد، في محاولةٍ مني للتطهر من سجلي الوظيفي، المثخن بخطايا لا يغفرها التاريخ.
منذ تلك اللحظة، لم أعد أبيع الجرائد، على الرغم من أنني أحمل رزمها يومياً بين يديّ، لكنني قرّرت، إمعانًا في النكاية، أن أواصل عملي ظاهريّا فقط، بمعنى أنني صرتُ أحمل الجرائد، من دون أن أبيعها، بل أتحاشى كل من ينادي عليّ لشرائها، وصرتُ أتجه من فوري إلى أقرب حانة، فأضع "جثثي" على الطاولة أمامي، وأعبّ كأس الندامة حتى آخرها، وكلما رأيتُ أحد السكارى متجهًا إلى المرحاض، أعطيته جريدة مجاناً.
ومع تكرار هذا الفعل يوميًا، بدأت الصحف بالانقراض، بفضلي أنا الذي كنتُ في ما مضى "بائع الجرائم".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.