الحسيمة والغضبة الملكية

الحسيمة والغضبة الملكية

30 يونيو 2017
+ الخط -
في بيان المجلس الوزاري المغربي، المنعقد أخيراً برئاسة الملك محمد السادس، ثمّة نبرة غضبة ملكية واضحة، ممزوجة بالاستياء والانزعاج والقلق تجاه تعثر تنفيذ برنامج تنموي يهم مدينة الحسيمة، وقّع على مشاريعه وزراء أمام الملك في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 في تطوان. وعبّر البيان نفسه عن إصدار الملك تعليماته بفتح تحقيقٍ في شأن هذا التعثر، وتحديد دائرة المسؤوليات التي أدت إليه.
يشكل هذا البرنامج نموذجاً لصيغةٍ من الجيل الجديد للمشاريع التي تحظى بإشراف ملكي، وتخصص انطلاقاً من ميزانيات مهمة، لتنمية جهةٍ من الجهات، مدمجة قطاعات حكومية ومؤسسات عمومية ومجالس منتخبة كثيرة.
تساءل كثيرون، بعد البيان، عمّا إذا كانت مشكلة الاحتجاجات ستعرف حلاً، إذا ذهب التحقيق إلى مداه الأقصى، في برنامج "منارة المتوسط"؟
ذلك أنه إذا كنا نعرف السبب المباشر للاحتجاج الاجتماعي (الوفاة الأليمة للشاب محسن فكري)، فإن دينامية الوقائع واستمرار الظاهرة الاحتجاجية ارتبطت بمجموع عوامل متداخلة (ذاكرة المدينة ورمزيتها/ سوء الفهم التاريخي مع السلطة المركزية/ قيادة الاحتجاج/ قوة خطاب و"إيديولوجية" الاحتجاج التي استثمرت المشترك الرمزي والهوياتي والثقافي لصياغة موقفٍ مناهض للسياسات وللسلطة المركزية). وقد وقعت تحولاتٌ في هوية "الحراك" ولغته ومواقفه، تبعاً لسلوك الدولة والنخب، وتبعاً كذلك لتفاعل المواطنين.
لذلك كله، تصحيح اختلالات هذا البرنامج الحكومي، وترتيب المسؤولية السياسية على ضوء ذلك، لم يعد "هنا والآن"، بإمكانه أن يضمن وحده كل عناصر الجواب على ما يطرحه
الاحتجاج، من دون أن يعني هذا أنه يمكن أن يشكل، إلى جانب مداخل أخرى، واحداً من مسالك حلحلة الأزمة، إن هو تزامن مثلاً مع خطواتٍ مرافقة، ليس أقلها إطلاق سراح المعتقلين على خلفية هذه الأحداث، وتفعيل حزمة من تدابير إعادة الثقة. ذلك أن المطالب لم تعد مطالب "سياسات"، بل أصبحت مطالب "كرامة"، وهو ما يعني أن الجواب يجب أن يكون سياسياً وحقوقياً بالأساس.
من الناحية الدستورية، ما يقع يعيد طرح مسألة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية، خصوصاً مع غياب رئيس الحكومة عن المشهد العام لهذا الحدث. وهنا، يمكن أن نطرح بعجالة ثلاث ملاحظات أساسية:
أولاً، حاول دستور 2011 تجاوز لحظة الملكية التنفيذية، من دون أن يصل، بالطبع، إلى الملكية البرلمانية. لذلك، لدينا نظام سياسي مبني على ثنائية السلطة التنفيذية، لا تحيل على توازن الصلاحيات، إذ تظل العلاقة محكومةً بالتراتبية بين رئيس الدولة والحكومة، وإذا كانت الأمور واضحةً، في ما يتعلق بالصلاحيات الحصرية للحكومة، وبالمجال المحجوز للملك، فإن الالتباس يلفّ طبيعة توزيع الصلاحيات المشتركة، خصوصاً مع "مطاطية" مفهوم السياسة العامة للدولة، وغموض مؤشرات التمييز بين المجال الحكومي للسياسات العمومية والمجال الملكي للإشراف الاستراتيجي.
ثانياً، يتعلق الأمر، في هذه الحالة، بمشروع حكومي برعاية ملكية. وعلى الرغم من أهمية هذا البرنامج التنموي، الموقّع في أكتوبر/ تشرين أول 2015، ومضمونه، فإن الأمر لا يتعلق، في النهاية، بمشروع استراتيجي، وهو ما كان يستوجب، بالنظر إلى امتداداته الترابية وطبيعته الأفقية، وتعدّد المتدخلين: (قطاعات حكومية، جماعات محلية، ..) أن يكون واحداً من الملفات التي يشرف عليها رئيس الحكومة.
ثالثاً، الغضبة الملكية، كما يُمْكِنُ أن تقرأ نقطة نظام من رئيس الدولة على ارتباكٍ في تدبير حكومي لسياسة عمومية، مندمجة بآثار اجتماعية واقتصادية وأمنية مهمة، يمكن، كذلك، أن تُقرأ واحدةً من الإمكانات التي تتوفر عليها المؤسسة الملكية تجاه فراغاتٍ مرصودةٍ في هندسة وحكامة وتأطير السياسات في المستويات الحكومية، والتي تستطيع معها ممارسة نوع من "الحُلُول" في علاقةٍ مع القيادة التنفيذية للحكومة.
وفي جميع الحالات، هذا يعني، على مستوى الممارسة، أننا لم نتجاوز لحظة الملكية التنفيذية،
على الرغم من التقدم على مستوى النص.
إذا كانت هذه النوعية من البرامج تطرح أسئلة دستورية وسياسية، حول اختيار العودة إلى الملكية التنفيذية، وحول مخاطر ربط شرعية المؤسسة الملكية بالإنجاز التقني، مقابل تصاعد عقيدة المساءلة لدى الأجيال الجديدة لما بعد 2011. وأسئلة أخرى بشأن علاقة هذه البرامج بالقانون المالي وبالمسؤولية السياسية أمام البرلمان، على ضوء ما يقع لاحقاً عن المراقبة البرلمانية من إعادة تركيب وصياغة للمالية العمومية ولوجهة إنفاقها، فإنها تطرح كذلك أسئلةً لها علاقة بحكامة السياسات العمومية الأفقية، ذات الوقع المحلي.
من ذلك مثلاً: سؤال شرعية إشراك المواطنين والمنتخبين في صياغة هذه البرامج على المستويين، المحلي والجهوي. وكذا سؤال التقاء فاعلين ومتدخلين كثيرين في "التركيب" المالي، وفي هندسة هذه البرامج (قطاعات حكومية/ جماعات محلية/ مؤسسات عمومية/ وكالات للتنمية..)، وهو ما يطرح مسألة قيادة المشروع ودور وزارة الداخلية في ذلك. سؤال تتبّع هذه المشاريع وتقييمها، خصوصاّ أن جزءاً من تمويلها يرتبط بمساطر متفاوتة في الطبيعة، وفي الزمن (ما وقع مثلاً في جهة في الصحراء، حيث كان التوقيع على برنامج تنموي، بإشراف ملكي، سابقاً على قرار المجلس الجهوي المنتخب، والذي تعذر إصداره في النهاية).
الخلاصة أن حالة "منارة المتوسط" هي نموذج مدرسي لعدد كبير من هذه النوعية الخاصة من المشاريع، وهو بذلك لا يحتاج فقط إلى تحقيق للوقوف على مسؤوليات هذا الوزير أو ذاك. ولكن إلى تقييمٍ شامل لحكامة هذا النموذج التدبيري، وإلى اختلالاته العميقة، غير البعيدة عن الخطاطة المؤسساتية العامة للبلاد.

دلالات

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي