هل الدين بطاقة صرّاف آلي؟

هل الدين بطاقة صرّاف آلي؟

22 يونيو 2017
+ الخط -
.. والحرب اليوم في بلاد العرب وقاموسهم السياسي الجديد هي حرب بينيةٌ أهليةٌ ذاتية من نوع فريد، حيث ينهش الجسد الواحد جسده، فيبدأ بعضّ يده، فيما يدُه تمزق خدّه، ويده الأخرى تمعن في لكم بطنه، هكذا أتخيل جسد الأمة الواحد، وقد انكبّ بعضه على أكل وقتل كله.
الصورة من التعقيد بحيث يصعب حشرها في مقال. لكن، من المستحسن التوقف برهةً عند المشهد الأخير من فصول الحرب الأهلية، لأنه مشهدٌ معبّر كثيرا، ويختزل الحكاية الطويلة ويختصرها، حكاية تحالف الاستبدادين، الديني والسياسي، التي تحدث عنها طويلا صاحب "طبائع الاستبداد"، ولعل في فكّ رموز هذا التحالف ما يوصل الباحث عن الخلاص إلى بداية الطريق.
المشهد أبطاله ما تسمى هيئة كبار العلماء في الجزيرة العربية، وهي هيئة لها اعتبارها واحترامها، وتلعب دورا خطيرا، ليس في الجزيرة العربية فقط، بل في سائر بلاد العرب والمسلمين. ولهذا، فإن أي موقف تتخذه له أبعاد وتأثيرات عابرة حدود نجد والحجاز. لذا نتوقع أن تنأى بنفسها عن أي خلافٍ سياسي، وأن لا تخلط الزيت بالماء، وأن ترتجف أيادي أهلها مليون مرة قبل أن تلغ في دم مسلمٍ، أو تحضّ على قتاله، أو تسوغ مقاطعته، ولكنها خالفت توقعاتنا، و"غرّدت" أخيرا تغريداتٍ هي أقرب أن تكون "تغريباتٍ" من الغرب، لأنها تحمل سمّا زعافا، ومنحىً خطيرا جدا في التماهي مع خطاب الصهاينة. وفي لحظةٍ يلتبس عليك الأمر، فلا تدري من يغرّد، أهو الشيخ الفلاني أم ليبرمان، أم نتنياهو، وتلك حالةٌ لم تكن تتوقع أن تصل إليها في أسوأ كوابيسك. لا أريد أن أورد هنا كل ما صدحت به حناجز "الهيئة"، ففي وسع أي قارئٍ العودة إلى حسابها على "تويتر" ليعلم كيف يلوي "علماء السلطان" أعناق الكلام، وكيف يتم تطويع "دينهم" ليصبح بطاقة ائتمانٍ (كريديت كارد) يدسّها أحدهم في ثقب الصراف الآلي، ليسحب منها من رصيده في الدنيا والآخرة.
ويكفي الإشارة إلى نصوص بعض التغريدات، من مثل: جماعة الإخوان ليس لهم عناية 
بالعقيدة، ولا بالسنة، ومنهجهم قائمٌ على الخروج على الدولة؛ إن لم يكن في البدايات، ففي النهايات. ليس في الكتاب والسنة ما يبيح تعدّد الأحزاب والجماعات؛ بل فيهما ما يذم ذلك: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" الآية. من انتمى إلى ولاءاتٍ سياسيةٍ خارجية خرج عن مقتضى البيعة الشرعية؛ فيجب الأخذ على يده؛ صيانة لوحدة الصف والكلمة. الدعاء لولي الأمر من أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة. سماحة المفتي: القرارات الأخيرة التي اتخذت بحق دولة قطر مبنية على الحكمة والبصيرة، وفيها فائدة للجميع؛ لإخواننا القطريين قبل غيرهم. سماحة المفتي: المملكة بلد إسلامي مستقيم، ولها عمل كبير في خدمة المسلمين، وتضميد جراحهم في أي مكان.
أمضيت ليلة، وأنا أنبش في أوراق التاريخ، كي أتأكد أن من يتمسّك اليوم بتحريمه المغلظ لأي مخالفة لولي الأمر، ناهيك عن الخروج عنه (!)، هو على دين ومذهب من خرج على "الخليفة" وحاربوه وأعوانه وولاته بالسيف، بل استعانوا بالفرنجة الإنكليز لتقويض حكم ولي أمر المسلمين وهو الخليفة العثماني، ومن بعد لم تنطلق ألسنتهم بالحق، ولم تصدح حناجرهم بالتغريد، حينما خرج قومٌ على حاكم منتخب، وأعملوا فيه وفي أتباعه أسلحتهم، قتلا واعتقالا وتشريدا وتعذيبا، وهالني ذلك السجال الطويل والمعقد بين من "يعترف" بولاية الخليفة على أرض الحجاز ومن ينكرها، كي يبرئ من حارب الخليفة "العثماني" من تهمة الخروج على الحاكم المسلم، خصوصا أن شيخ شيوخهم ابن تيمية يقول في فتاويه الكبرى: مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر.
أكثر من هذا، نحا بعضهم من أصحاب مذهب التبرير إلى تكفير دولة الخلافة العثمانية بأسرها، كي يبرّر الخروج عليها وعلى خليفتها، أما التكفير فكان بسبب البدع التي كانت سائدةً فيها 
وبناء القباب على القبور وتعظيم أهلها، وسائر ما يعتبرونه مستحدثاتٍ تخرج من الملة، وهو مما يعتبر من الشرك في عرف أصحاب تبرير الخروج، وهذا الأمر تحديدا يذكّر بجواب عبد الله بن عمر لمن استفتاه في حرمة دم البعوض يصيب ثوب المحرم، حيث سأله ابن عمر: من أين أنت؟ فقال: من العراق، فقال ابن عمر: وا عجبا من قومٍ يسألون عن دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت نبيهم! وسمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا.
وواعجبا من قوم يرون القذى في عيون "خصومهم"، ولا يرون الحصى والعصي والصخور والسياط والأقبية المظلمة والسجون والفجور والعسف والظلم في عيون ولاة أمورهم. ألا يصحّ فيهم قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه؟.
أخيرا، لنا أمل كبير في أن يتذكّر "العلماء" محنة ابن حنبل وثباته على مبدئه، وفتواهم هم أنفسهم عن جماعة الإخوان المسلمين ذاتها، والتي وقّع عليها يومها الشيخ ابن باز، وتنصّ على أنّ جماعة الإخوان المسلمين من أقرب الجماعات إلى الحقّ، وأشدها استمساكا بالصواب، فكيف أصبحت بين عشية وضحاها ما يقولون فيها؟