الثقافة وقراءة السياسة متهمتان بالإرهاب

الثقافة وقراءة السياسة متهمتان بالإرهاب

12 يونيو 2017
+ الخط -
يُصاب المرء بالذهول أمام ما حدث الأسبوع الماضي، والذي شاهد العالم فيه انقضاض شقيقات خليجيات عربيات بـ"هجوم صاعق" على قطر، ومصاحبة فضائيات لها في الانقضاض، فهي جُندت لهذه "المعركة الكبرى" لجندلة قطر. ولم تكن المعركة مشرِّفةً لمن قام بها، ولم تُقنِع حتى أصحابها من مذيعين وضيوف تخلوا جميعًا عن الرصانة المهنية، لصالح تواشيح من التهريج والسباب والشتائم، وتلفيق الأخبار، بهدف شيطنة دولة قطر وتحويلها إلى عدو خطر، لا يمكن الثقة به، ومن العبث الصبر عليه. لذا يصبح من الضروري الإجهاز عليه الآن وليس غدًا.
نتبيّن من تلك المقدّمات الكلاملوجية أن الأشقاء حاولوا فيها تبصير الرأي العام، المحلي والعربي والدولي، بأمر ذلك "العدو" الذي يسكن في الجوار، ويستغل هذه الجيرة لكي يحيك المؤامرات البغيضة. صحيحٌ أنه صغير جدًا، لكن أفعاله كبيرة، تكاد أن تودي بدول الأشقاء وشعوبها، يزرع الفتنة في شعوبها على الطريقة الإيرانية والصهيونية. ومؤامرات قطر تأتي في وجهين: خفي (الثقافة) وعلني (قناة الجزيرة). فمن وراء ستار الثقافة والمثقفين، وتحت يافطة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تزرع الفرقة. صحيح أن المركز يعمل على تعريف القارئ العربي بالثقافة الحديثة بتياراتها المختلفة، ولا سيما الديمقراطية الليبرالية في سياق عربي، ولإحياء ثقافي عربي يعيد إلى العرب مكانتهم التي ضاعت بتراكم أزمنة التخلف والجهل، ويحثّهم على صنع مستقبلٍ يليق بهم، وبمكانة حضارة أجدادهم، ليكون لهم رأس في
العالم يملكون المشروع والإنجاز الحضاري، لا أن يبقوا يحبون على عتبات الزمان، بدون هوية ولا إنجاز، لكن الأشقاء ينظرون بريبةٍ لهذه الثقافة والزيادة في الاطلاع عليها، فهي قد تذهب تحارب الجهل، ويرى بعضهم في الجهل والثقافة السلطوية حليفا له. والثقافة عدو ذو وجهين خطرين، قوة تدمير للجهل وقوة إبداع، وهذا غالبا ما يأتي متواشجا مع النقد، والنقد من المحرّمات.
صحيح أن قطر سمحت لمجموعة من المثقفين من شتى البلاد العربية على تنوع ابتكاراتهم وعلومهم، وفي مقدمتهم المفكر العربي عزمي بشارة، وهو أيضا مناضل فلسطيني ملاحق من الكيان الصهيوني، سمحت لهم بإدارة الورشة الثقافية للمركز العربي الذي تحول إطاراً جامعاً للمثقفين العرب، يعقدون الندوات والمؤتمرات، ويصدرون الدوريات المحكمة فعلا، الأكاديمية فعلا، لا قولا. وفي ظله، يساهمون في تجديد الثقافة العربية الحديثة على أسس العقلانية والابتكار والتسامح والحرية والديمقراطية مرتكزات للمستقبل العربي المرجو، غير أن بعض شقيقات قطر يظنون الظنون بالمركز العربي، وبمديره المفكر المؤثر على الرأي العام، وخصوصا على الشباب، فهم لا يريدون العقلانية، ويخشون الديمقراطية والتسامح، فكل هذه القيم قد تُقيد أيديهم، وهذا هو الإرهاب بذاته. لهذا يُشاع، بين حين وآخر، مثلما يشاع في أزمة اليوم، إن إحدى "المعاصي الكبرى" التي ترتكبها قطر في حق إخوانها الخليجيين. هو هذا "المركز" وإنجازه الثقافي، بمجلاته المتعدّدة وكتبه الثقافية التي تخطت المائة والخمسين كتابًا في شتى العلوم الحديثة، وبعضها أصبح مرجعا في ميدانه، وذلك بذريعة الإرهاب: أليست الثقافة إرهاباً لا يعلو عليها إرهاب؟
وإلى جانب المؤامرة الخفية هذه، تقوم قطر بمؤامراتٍ علنيةٍ، تتجلى لدى الأشقاء بقناة الجزيرة التي افتُتحت في العام 1996، هتكت فيها قطر المحرمات، وكشفت المستور من أفعال الأشقاء العرب وأقوالهم، وهي، منذ افتتاحها، صار الناس تتعرف على آراء عديدة بشأن موضوع واحد، وعرَّفت الناس بآراء وأفكار كانت من المحرّمات لدى شعوبنا، وأتاحت لكل التيارات السياسية العربية، بل حتى الأجنبية، توضيح وجهات نظرها على الملأ. من هنا، يأتي اتهام الأشقاء لها بأنها بلبلت عقول الأجيال المختلفة. ومن هذا الباب العريض (تنوع الآراء) يتسلل الإرهاب، وتصبح بلادنا والعالم في خطر. ولهذا يصر الأشقاء على أن تختفي قناة الجزيرة، بذريعة الإرهاب والفرقة، فيسجل العرب بذلك سابقة عجيبة في التاريخ: أنهم وضعوا الثقافة، والحوار السياسي في خانة الإرهاب والفتنة، لذا يتوجب استئصالهما من جذورهما.
لغط كثير تعالى في قلب الأزمة بشأن المطلوب من قطر حول لزوم ما يلزم، العنوان الأول أو الذريعة الأولى دعم الإرهاب وتغذيته. ثم يتوسع هذا العنوان، ليشمل الإخوان المسلمين، علمًا أن هؤلاء هم السند الرئيس لسلطة البحرين حليف السعودية، وكان إخوان الأردن قاعدة اجتماعية سياسية للملك الحسين وجده عبدالله، وما زالوا عنصرًا سياسيًا شرعيًا. وفي تونس، الإسلاميون شريك في الحكم والثورة، وفي المغرب هم حزب حاكم، وفي الجزائر يمتلكون الشرعية القانونية، وفي فلسطين شريك في الحكم والثورة. ويتساءل المرء هنا: كيف يمكن أن يذهب التحالف العربي لتحرير اليمن، وفي الوقت نفسه، يفتح جبهات عداء فرعية مع حزب الإصلاح، فيضرب بذلك وحدة الموقف المعادي للحوثيين وإيران؟ أليس من الاستخفاف أن تناقش هذه المسألة بهذه الخفّة، وعدم المسؤولية، وذلك بسبب "رأي" شريكٍ غدت بلده استراحة لعائلتي الأسد ومخلوف وكنزًا احتياطيًا لهما، فهل يحق لهذا أن يزاود على قطر في الخصومة لطهران؟ أليس الأسد ومخلوف أهم ركائز إيران؟ والحرب على طهران تبدأ من هنا، ومن صنعاء ضد الحوثيين. وأليس قادة مصر، كما تعرف السعودية، قريبين من نظام الأسد ، ولم يتغير موقفهم. على من يريد أن يواجه التوسع الإيراني أن يواجه ركائزها في دمشق وصنعاء، فلا يمكن أن يكون صديقًا لتجليات التوسع الإيراني!
هوى سيف المقاطعة الشاملة من شقيقات قطر الثلاث على جسد القطريين. استهدف السيف السلطة والمواطنين، وهدّد الكيان القطري. ترافق ذلك مع أعراس احتفالية في فضائيات تلك الشقيقات، مملوءة بالتشفي والحقد. وقد عالج فرانز فانون ومصطفى حجازي هذا السلوك العدواني: يهرب فيه الإنسان المقهور من قاهره، ليفرغ شحنات غضبه الدفينة على مقهورٍ مثله أو على زوجته. غدت تلك الفضائيات تنتظر بتلهف خبرًا يُعلن فيه الإجهاز على قطر، يتوقف المذيع ليعلن خسارة قطر المليارات، اقتربت من الإفلاس، القطريون يهجمون على الأسواق
للتموين خوفًا من الجوع القادم، ذعر في قطر.. ومع العلم أن هذه افتراءاتُ حربٍ نفسية، نحن أمام إعلاميين موظفين يتلقون إملاءات التشفِّي بمحنة دولة عربية شقيقة، والتلذّذ برؤيتها تنزف. لكنهم يستدركون أخيرًا، بعد افتضاحهم، ليختموا كلامهم: "الأمر ليس موجهًا ضد إخواننا القطريين". شيء مخزٍ، يا لبؤس الجهالة العربية، كأننا لم نغادر بعد مجتمع القبيلة، وندخل فضاء الدولة، ومنطق الدولة، والدبلوماسية، والقانون الدولي واحترام البشر. ألم نسمع بعد أن هناك منطقا واحدا، في العصر الحديث، يجب أن تسلكه الدول تجاه بعضها، الحوار ولغة القانون الدولي والتفاهم. للأسف لم يمر هذا في بلادنا بعد.
تبيّن في أثناء ثورات الربيع العربي أن المجموعة العربية فقدت توازنها، لم يتبق سوى الكتلة الخليجية، بقيادة السعودية، لتقوم بدور قيادة المجموعة العربية في هذا الزمن العصيب. استبشر عربٌ كثيرون بصعود الملك سلمان، ومبادرة عاصفة الحزم العسكرية في اليمن، وقيادته معركة التصدي للنفوذ الإيراني، وتدخلها في الجسم العربي، ارتكازًا على وحدة مجلس التعاون الخليجي أساسًا. حظي هذا التصدّي لإيران بتأييد أكثرية العرب سنتين. شعرت هذه الأكثرية أن العرب استرجعوا توازنهم بصعود قيادةٍ جديدةٍ جامعة للأمة. وللأسف، تراجعت هذه الثقة، والكل يعرف أن بعض شركاء سلمان هو من قام بدورٍ مدمر في التوجهات الجديدة. لذلك يأمل عربٌ كثيرون أن تعود السعودية إلى موقع قيادة الخليج والعرب نحو الوحدة والتآلف ومراعاة مصلحة المجموع، وليس نحو الفرقة واستقواء الكبير على الصغير، والرجال الكبار يبرزون في اللحظات المصيرية.