الاتحاد الأوروبي والقضايا الإشكالية عربياً

الاتحاد الأوروبي والقضايا الإشكالية عربياً

13 ابريل 2022
+ الخط -

لم يتوقف العرب عن الكتابة عن أوروبا، وعن طرح الأسئلة المعرفية والمصيرية عليها. والبحث في شتى جوانبها، وقد جاء كتاب الباحث أحمد قاسم حسين "الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية .. القضايا الإشكالية من منظور واقعي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2021) في سياق هذا الجهد المعرفي الكبير، من خلال دراسته تجربة الاتحاد الأوروبي ودراسة عديد من أوجه علاقاته بالعرب. وكان باحثون عرب عديدون قد تقصوا أوجه تلك العلاقة والتأثير بين الجانبين، الأوروبي والعربي، وفي مقدمتهم حسن نافعة وبشارة خضر، فهما بحثاً عن أوروبا في علاقتها مع العالم العربي، فكتاب نافعة "الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربيًا" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004) يعالج مشروع الاتحاد الأوروبي، وفي مقصده البحث عن دروس التجربة الأوروبية التي يمكن أن تفيد الطموح العربي نحو الوحدة، فكان يواجه سؤالًا رئيسيًا: لماذا نجحت التجربة الوحدوية الأوروبية، وتعثرت التجربة الوحدوية العربية، فعلى الرغم مما يجمع عرباً كثيرين من المشتركات والحوافز، لم يستطيعوا تطوير صيغة "جامعة الدول العربية"، فأعطى نافعة هنا أهمية كبرى للمؤسسة الديمقراطية واستقرار النظم في نجاح التجربة الأوروبية، بينما ساهم غياب الديمقراطية، وهيمنة التسلطية في تقهقر التجربة العربية. وقدّم بشارة خضر كتابين مهمين، في هذا السياق: الأول تاريخي، يضيئ على علاقة أوروبا بفلسطين "أوروبا وفلسطين من الحروب الصليبية حتى اليوم" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003)، فأصبحت فلسطين منذ القرن 19 "ضمن المشاريع الأوروبية الاستعمارية"، تحتضنها البلاد العربية في إطار وحدة المصير. وتعقّب هذه العلاقة إلى ما بعد مؤتمر مدريد (1993)، وما أعقبه من اتفاقات سرّية، وقيام السلطة الفلسطينية، وتقارير المجلس النيابي الأوروبي حتى عام 1999. والكتاب يضم ثلاثة محاور، يتعقب في أحدها تحولات الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية، ويرى أن أوروبا ما تزال غير قادرة على استقلال سياستها عن الولايات المتحدة، ولكنها تحاول أن تتقدّم خطواتٍ إلى الإمام من المشكلات الفلسطينية، وإن كانت لا تزال المساعدات الاقتصادية العنصر الأبرز "وقد اعتبرت المستوطنات منذ عام 2014 غير قانونية". وفي كتابه الآخر "أوروبا والعالم العربي .. رؤية نقدية للسياسات الأوروبية 1957 - 2014" (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2016). درس بشارة خضر، بطريقة نقدية، مضمون السياسة الأوروبية من القضايا العربية، واعتبر أن جذور القصور في الاستراتيجية الأوروبية تجاه البلاد العربية (نظرياً وممارسة) يتعلق بتمسّك أوروبا بسياسة قاصرة تجاه علاقتها العربية، تعتمد التجارة والاقتصاد مدخلًا، من دون نظرةٍ شاملةٍ لهذه العلاقة، تتضمّن الشراكة في مجمل العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية في تكاملها، فبقيت تعتمد استراتيجية لا تتناسب وأهمية البلاد العربية، في المغرب أو في المشرق، أو مجلس التعاون الخليجي، أو مع أهمية القضية الفلسطينية، فكان الكتاب خلاصة أبحاث خضر لعشر سنوات مضت في المسائل نفسها.

يتألف كتاب أحمد قاسم حسين، من قسمين، يتمحور الأول على بناء نظرية تفسّر عملية التوحيد الأوروبية، وتستوعب حركة العمل الأوروبي في حقل التكامل، من خلال البحث عن جذور التفكير في "التكامل الأوروبي" الذي انطلق في أجواء الحرب العالمية الأولى، منذ بداية التفكير في تحقيق وحدة أوروبا، وتحليل عملية مراحل هذا التوحيد الذي تعزَّز مع الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وتكامل عبر الاتفاقات والهيئات المنظمة، وذلك بالتضاد مع فكرة أوروبا النازية، أو أوروبا في فلك الاتحاد السوفييتي والشيوعية، فشهدت أوروبا عام 1946 إنشاء اتحاد الفيدراليين الأوروبيين. وفي عام 1949، تأسس مجلس أوروبا من عشر دول، فيحلل حسين الطرق العملية التي اتبعتها التجربة الوحدوية الأوروبية على شتّى المستويات، خصوصاً المستوى الاقتصادي، وتوّجت بمعاهدة ماستريخت وما أعقبها من معاهدات (أمستردام، نيس، لشبونة). وناقش من خلال ذلك مدى قابلية توجهات المدرسة الواقعية في تفسير ظاهرة قيام التحالفات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً على ميدان الاتحاد الأوروبي، كأهم التكتلات الدولية الصاعدة، متفحصاً ثلاث محطات في سياق هذه العملية: مسار برشلونة في 1995، وسياسة الجوار الأوروبية، ومشروع دعم الشراكة والإصلاح والنمو الشامل في 2011، فقد أسّست عشر دول مجلس أوروبا عام 1949 (ص39-48). واستمراراً لهذا الطموح الوحدوي، ولدت "الجماعة الأوروبية EC)، ولحقها تأسيس الجماعة الأوروبية للدفاع، وبعده تأسيس الجماعة الاقتصادية الأوروبية 1957، ثم التعاون في المجال النووي، والتطلّع إلى تأسيس السوق الأوروبية المشتركة إلى توسيع الجماعة الأوروبية والقانون الأوروبي الموحد، والاتحاد الاقتصادي والنقدي. وعملت دول الاتحاد على إلحاق السياسة بالوحدة الاقتصادية. وقد مهد القانون الأوروبي الموحد والسوق الأوروبية لقيام الاتحاد الأوروبي عام 1993، وتواقت ذلك واكتمل مع انهيار المعسكر السوفييتي (ص79 و87). واستمرّ هذا التحوّل في إقرار معاهدة ماستريخت واعتماد العملة الموحدة، واستُكملت خطوات "الاتحاد" بمعاهدة لشبونة 2007 التي عدّلت معاهدة ماستريخت (ص 108).

نظرية تفسّر عملية التوحيد الأوروبية، وتستوعب حركة العمل الأوروبي في حقل التكامل

وتوقف أحمد قاسم حسين طويلًا عند فكرة صلاحية النظرية الواقعية في فهم قيام التكتلات الكبرى، سيما الاتحاد الأوروبي (EU)، وهذا هيكل لتعاون الدول وليس لتصادمها، كما تفترض النظرية الواقعية. ويرى حسين أن هذه النظرية، على تنوع مدارسها، تفترض أن "الإنسان أناني بطبعه، ويسعى لامتلاك القوة في المجتمع المحلي الذي يتسم بوجود سلطة مركزية جسدتها الدولة في التنظيم السياسي السائد" (ص129 ). ويتساءل: هل يمكن أن تستوعب النظرية الواقعية، بعد تطويرها، بروز هذه التكتلات الدولية التي تفترض التعاون؟ فيذكّر بأن المدرسة الليبرالية رأت أن النظام الدولي "ليس بنية فحسب، بل هو عملية فيها تفاعلات متعدّدة بين أطراف متعدّدة... قد يقود إلى بناء نظام دولي جديد، يرتكز على الاعتماد المتبادل على نحو أساسي" (ص 139). ويبادر إلى القول: "فقدت الواقعية قدرتها التفسيرية بعد الحرب الباردة، وباتت في موقف دفاعي" (ص 139). ولا يخفي الباحث ضرورة تجديد هذه النظرية لاستيعاب ظاهرة التكامل الأوروبي، فلدى الواقعيين "ميل إلى التقليل من أهمية التعاون بين عدد من الفاعلين الدوليين في إطار مؤسساتي"، بل تعمل "النظرية" على "إنكار الوجود المؤسساتي فوق الدولتي (ص 350 -351).

استعمل حسين موقع الاتحاد ودوره، ليصيغ نظرية مفادها: "إن الاتحاد الأوروبي يَبْقى من البنية الداخلية كانتيًا، من خلال عملية التكامل التي تُخفف آثار الفوضى على المستوى الداخلي، ضمن القارة الأوروبية، إلا أنه يبقى هوبزياً في سلوكه في بنية النظام الدولي" (ص353). وهذه قاعدة/ نظرية لا تصلح فقط لوصف حركية "الاتحاد"، بل تصلح لوصف السلوك المزدوج للدول الديمقراطية، صغيرها وكبيرها، فلها وجهها الديمقراطي الحواري في الداخل. وعلى العكس من ذلك، لها وجه مختلف تمتزج فيه نزعة القوة بالمصلحة (هوبز) في علاقاتها الدولية، بينما الدولة التسلطية يتسم وجهاها، الداخلي والخارجي، بالطابع (الهوبزي) تمتزج، في سياستها القوة بالمصلحة الضيقة، فهي مكيافيلية وهوبزية في علاقاتها الداخلية وعلاقاتها الدولية.

لكن، ألا يجوز، ومن الواجب، أن نتطلّع إلى أن تسود العلاقات الديمقراطية (التعاقدية) بين الدول، كحال علاقاتها الديمقراطية داخل الدولة الديمقراطية، فيتساوى الداخل الديمقراطي مع سيادة فكرة توازن المصالح والحوار العقلاني في العلاقات الدولية، تحت مظلة الأمم المتحدة بعد تطويرها، وهذا لن يأتي بسهولة، فهو يحتاج جهود أجيال لسيادة الديمقراطية في الداخل (الوطني) وفي الخارج الأممي، وهذا ممكن وواجب.

يطالب الاتحاد الأوروبي الفلسطينيين دائماً بالالتزام بالمعايير الحقوقية الدولية

وعلى هذا المسرح التاريخي، سيتصارع في المستقبل نموذج بوتين (التسلط ومصلحة الدكتاتور/ الماضي) وغورباتشوف (توازن المصالح والحوار - المستقبل). وتبقى المسألة: ليس البنية والانضباط اللذين يستند إليهما حاملو النظرية الواقعية، وهم من عتاة اليمين، ورمزهم الأعظم كيسنجر، بل الإرادات الاجتماعية الواعية. ولا بد من التذكير دائمًا أن الحداثة السياسية لا ترتكز على النزعة (الدنيوية/ المصلحة القوة) التي بشّر بها هوبز ومكيافيلي، بل ترتكز على فكرة "العقد الاجتماعي"، فالقوى المحافظة ترجع إلى منطق القوة، وإلى النزعة الدنيوية، متذرّعة بالعلم وقوانين الواقع، بينما القوى الديمقراطية ترجع إلى فكرة "العقد الاجتماعي" لتنصبه حاكمًا في السياسة الداخلية والخارجية، فيمكن، على هذا الأساس، أن نبني العلاقات بين الدول على أساس توازن المصالح، كما ذهب إلى ذلك غورباتشوف، فتصبح العلاقات الديمقراطية داخل الدولة منسجمة، وعلى توافق مع علاقات الدول القائمة على التعاقدات والتفاهمات، وعلى توازن المصالح.

التحول الديمقراطي وفلسطين والهجرة

وينتقل أحمد قاسم حسين في القسم الثاني إلى مجال الممارسة العملية للحركة المتنامية لتشكيل الاتحاد الأوروبي في الوجه الذي أصبح فيه فاعلاً دولياً، أهله ليقوم بدور تفاعلي مع العرب، فاختار مجالات أربعة يمارسها الاتحاد الأوروبي في تفاعله مع قضايا البلاد العربية: التفاعل مع قضايا التحول الديمقراطي العربي، فيبدأ حسين بإضاءة العلاقة الجدلية بين رغبة "الاتحاد" نظريًا في تعزيز الديمقراطية في المجال العربي والتعلق باستقرار الأنظمة الراهنة، وعدم المجازفة بتشجيع عملية التغيير. ويحلل بدقة طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع ثورات الربيع العربي، فعلى الرغم من أنها أظهرت، في البداية، انحيازها للتحول الديمقراطي، إلا أنها اختارت التحزر بعد أن نجحت الثورة المعارضة في إعادة السيطرة (ص 210 - 219). وتتعلق المسألة الثانية بطريقة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع القضية الفلسطينية، فيلقي الضوء على النقاشات والانعطافات التي شهدتها السياسة الأوروبية بين المد والجزر، بين اتخاذها مواقف تقترب من مصالحها (ومع حق الحقوق الفلسطينية) والاستجابة للضغوط الأميركية والصهيونية. وأشار إلى أنّ الاتحاد الأوروبي يطالب الفلسطينيين دائمًا بالالتزام بالمعايير الحقوقية الدولية، وكان عليه أن يبصر أن تطبيق هذه المعايير لن يمكّن من بناء السلام أو استرجاع الحقوق الفلسطينية. بينما عقدت إسرائيل، في 1975، اتفاقية تجارة حرّة مع الجماعة الأوروبية، في ظل تجاهل الأخيرة حقوق الشعب الفلسطيني التي تقلّصت لديها إلى مسألة إنسانية وحسب (ص 233). ولم تتغير هذه النظرة جذريًا حتى بعد حرب 1973، وإنْ كانت قدّمت تصورًا للتسوية، يحترم سيادة الدول، وينبذ فكرة استخدام القوة. (237).

عالج أحمد قاسم حسين مشكلة الهجرة بطريقة رصينة، لكنّه لم يتوسع في موضوعاتها ومشكلاتها في المجالين، العربي والأوروبي

وعمل أحمد قاسم حسين على معاينة السياسة الأوروبية في سياقات تاريخية، ولمراحل تاريخية على ضوء تحولات الواقع. المسألة الثالثة التي واجهتها أوروبا هي الأزمة الخليجية عام 2017، فهي لم توفر جهدًا لإطفاء نار هذه الأزمة، وتطويقها كي لا تتسع وتتفاقم، في منطقة لها أهميتها الجيوسياسية، واتصفت سياسة الاتحاد الأوروبي بتعارضها مع توجه الرئيس ترامب. أما المسألة الرابعة (الهجرة)، فقد حصرها الكاتب في المجال الليبي، حيث أصاب طبيعة الهجرة تغير وتبدّل، فكانت الثورة الليبية وسقوط القذافي المفصل بين مرحلتين كبيرتين، حيث تحولت ليبيا إلى مصدر للهجرة العابرة "وتحول ليبيا من بلد مقصد إلى بلد عبور... وتحولها إلى مسألة أمنية لأوروبا" (ص332).

أفكار وملاحظات

يلمس أحمد قاسم حسين، منذ مقدمة كتابه، شوق أوروبا الى التخلُّص من أجواء الحروب المتوالية إلى السلام، والاتجاه نحو التعاون والوحدة. وبالتلازم زمنيًا مع هذا التوجه الأوروبي الوحدوي، يضيء على التجربة العربية في جنوب المتوسط، وكأنّه يريد أن يذِّكر فقط بالمآلين المختلفين لتجربتي أوروبا والعرب. واستحقت هذه المسألة مدار محور خاص، يُميط اللثام عن موقف الاتحاد الأوروبي، النظري وفي الممارسة السياسية، تجاه جهود العرب نحو الوحدة.

ولقد عالج حسين مشكلة الهجرة بطريقة رصينة، لكنّه لم يتوسع في موضوعاتها ومشكلاتها في المجالين، العربي والأوروبي. وكان جديراً أن يلحق بها "المسألة الإسلامية" في أوروبا التي تحيطها المخاوف والمحاذير من الهجرة "الإسلامية" إذ لم تعد الهجرة تنفصل عن هذه المسألة. وملاحظة أخيرة تتعلق بعلاقة البحث بالنظرية الواقعية، والجواب عن سؤال طرحه الباحث نفسه ما إذا كانت معطيات هذه النظرية تفي بالغرض، وقدَّم اعتراضات جوهرية. وفي كلّ الأحوال، قدّم الباحث ملفاً غنياً للعلاقات الأوروبية العربية من بوابة الاتحاد الأوروبي نحو البلاد العربية، سيكون له موقعه في المكتبة العربية - الأوروبية.