المغرب في مواجهة استحقاقاته

المغرب في مواجهة استحقاقاته

28 مايو 2017
+ الخط -
لو قمنا بعملية إحصائية لمجمل المصطلحات والشعارات التي تشكل، في الوقت الراهن، هيكل الخطاب السياسي المغربي، والرسمي منه خصوصا، لوجدنا أن هذه المصطلحات تحيل على حقول دلالية واسعة ولامتناهية، تتقاطع فوق مساحتها مفاهيم ومعاني الدولة الديمقراطية التي تنتصر للعدالة، وتستند إلى القانون والمؤسسات، وتتفانى في خدمة المواطن والدفاع عن الوطن، وتترفع عن الحسابات الضيقة والرهانات الصغيرة العابرة، وتجتهد في إضفاء المصداقية والإنتاجية والفعالية على مؤسساتها وأجهزتها المختلفة، عوض افتعال لحظات حماسٍ واندفاعٍ ظرفية، تسعى، من خلالها، إلى حشد الأنصار والمتفانين في الدفاع عن "المصلحة العليا"، كي يشهروا وطنيتهم الجذرية في وجه من يفترض أنه يغرّد خارج السرب، ويعزف على وتر التفرقة، ويحترف التطاول على المقدسات والثوابت.
وتحيل هذه الشعارات أيضا على الحداثة أفقاً حتمياً لسيرورة الدولة، ومسار تطورها وانفتاحها، وتحولات بنيات المجتمع وقيمه وعلاقاته، وتحيل كذلك على الحكامة بمدلولاتها الشاملة، وعلى العدالة آلية للإنصاف والحماية، وعلى احترام مكونات الهوية الوطنية، وعلى تحديث النسيج الاقتصادي وعصرنته، بهدف إرساء أسس المقاولة المواطنة القادرة على التنافس، وعلى تثوير التشريعات، بما يجعلها مسايرة للأوراش المفتوحة والمبادرات المقترحة لتطوير البلاد، ومتناغمة مع الإرادة السياسية العليا.
والسؤال الذي يفرض نفسه في سياق الحالة المغربية الراهنة، وفي خضم عدد من الحركات الاحتجاجية، أبرزها ما أصبح يعرف بحراك منطقة الريف، وإقليم الحسيمة خصوصا، هو مدى فعالية الشعارات المرفوعة والمسوقة ومصداقيتها، على نطاق واسع داخل البلاد وخارجها،
ومدى قدرتها على تطويق الاختلالات الهيكلية التي تحفّ بقطاعاتٍ كثيرة؟ فإذا كان الفاعلون، على اختلاف مواقعهم وتوجهاتهم، قد اقتنعوا وعقدوا العزم على تحرير المغرب من أصفاد السنوات العجاف، وتخليص ذاكرته الجماعية من آثار الجمر والرصاص، من خلال تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة التي أنشئت ضمن ما تعرف بالعدالة الانتقالية، وتمنيع كيانه ضد كل الأوبئة والأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن منطق الأشياء يحتّم على صناع القرار السياسي وواضعي الاستراتيجيات الكبرى ضرورة إمساك هذه الشعارات، والذهاب بها إلى أقصى الحدود، مع إعطائها مضمونا اجتماعيا واقتصاديا، بترجمتها على أرض الواقع في شكل خطواتٍ عمليةٍ وإنجازات ملموسة، لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. وقطعا لدابر الشك، وردّا لكل من يهوى سياسة العدم، ويفضل أن يعيش أبد الدهر بين الحفر. لكن، وكما هو راسخ في أذهان تنظيماتٍ حزبية ونقابية كثيرة، والفاعلين في مختلف الميادين، هل كل من يطرح السؤال، ويمارس عملية التفكير الحر والنقد البناء، يصنف بكيفية ميكانيكية في خانة العدميين؟ بل يرى هؤلاء الفاعلون أن مهندسي المرحلة لا يتردّدون في إقامة حواجز وحدود بين مغاربة موزعين على محوري الشر والخير، وكأن المسألة تنم، في عمقها وباطنها، عن وجود متآمرين، يتحينون الفرص للانقضاض على السلطة وزعزعة الاستقرار الذي ينعم به المغرب، ويجعل منه استثناءً مقارنة مع الجوار الإقليمي.
لا يتصوّر أغلب الملاحظين بلدا في حجم المغرب الذي يتكئ على رصيد حضاري وثقافي، وإلى عراقة سياسية وفرادة في تعايش مكوناته الاجتماعية والإثنية، وتسامح يطبع سلوك مواطنيه، واستقرار متين، يمكن أن ينزلق بسهولة إلى ما هو أسوأ، أو يجد نفسه على حين غرة، أمام فجواتٍ وتصدعاتٍ في جدار وحدته الوطنية وجبهته الداخلية.
من خلال تتبع النقاشات المشتعلة في شبكات التواصل الاجتماعي، يمكن أن نلاحظ بسهولة أن
المغاربة هم في غنىً عن معارك جانبية، ومهاتراتٍ سياسويةٍ تمتهن الاتهام، وتمارس التشويش والتضليل، ووحدهم أصحابها يعرفون دوافعها ونياتها الحقيقية، وخصوصا أنهم (أي المغاربة) يكتشفون أن "قوافل المتطوعين" للدفاع عن التماسك الوطني والمكاسب الديمقراطية وأجواء الحرية والانفتاح بالمعنى الشعبوي، تتناسل بسرعة كلما تعلق الأمر بسياقٍ وطني متوتر. ويرى العقلاء والحكماء والنشطاء من مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية أنه حتى إذا ظهر أن سلوكا سياسيا أو مدنيا أو إعلاميا أو عقائديا، خرج عن الإجماع، وبات يشكل حالةً شاذةً من شأنها أن تعرض ثوابت الوطن، وقيمه ومقدساته إلى المساس والتشكيك، فإن هناك آليات ومرجعيات قانونية وقضائية، يعهد إليها البت في مثل هذه السلوكات.
وأكثر من هذا، فإنهم يعتبرون أن المغرب الآن هو في أمسّ الحاجة إلى جبهة داخلية صلبة ومنسجمة، وإلى وفاق وطني قوي، لمواجهة المؤامرات التي تحبك بجواره، وعلى مقربة منه، بغية "إيجاد أمر واقع"، قد يحمل المجموعة الدولية على تغيير مواقفها حيال وحدة المغرب الترابية، وسيادته على الصحراء، خصوصا في ظل المقترح المغربي القاضي بمنح حكم ذاتي للأقاليم الجنوبية، وفي ظل مشروع الجهوية المتقدمة الذي دخل حيز التطبيق منذ سنة 2015، في أعقاب آخر انتخابات محلية، وهو المشروع الذي من شأنه أن يجعل من المغرب دولة الجهات بامتياز.
وإذا كانت بعض العوامل الجيو ـ سياسية الإقليمية تعمل لصالح المغرب في لحظات معينة، خصوصا بعد عودته إلى المجموعة الأفريقية، واستئناف نشاطه في هياكل اتحادها، فإنه لا مناص من توخّي الحيطة والحذر، والتزام استراتيجية واضحة ومتبصرة لاحتلال المواقع المتقدمة، بدل الاكتفاء بالمبادرات والتكتيكات الظرفية التي غالبا ما تكون أهدافها محدودة في الزمان والمكان.