2023... عام الإبادة الجماعية والتطهير العرقي

2023... عام الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والسقوط الأخلاقي

01 يناير 2024
+ الخط -

ليس هناك أدنى شك في أن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر تركت جرحا عميقا في الكيان الصهيوني مجتمعا ودولة. وأصابت سردياته وأساطيره في مقتل. ولذلك كان رد فعله مجنونا وهمجيا ومدمّرا بكل المقاييس، فعلى امتداد حوالى ثلاثة أشهر، حوّلت قوات الاحتلال قطاع غزة إلى ركام من الدمار، وعادت به عقودا إلى الوراء، في إطار حرب إبادة ممنهجة، وتطهير عرقي غير مسبوق وتهجير جماعي للسكان. ويشهد العالم، من أقصاه إلى أقصاه، على جرائم حربٍ بشعة أنطقت الحجر، وجعلت الأرض مقبرة كبيرة للأطفال والشيوخ والنساء.
ويكثّف ما أنتجته الآلة العسكرية الإسرائيلية من فظاعات ومذابح، آفة موت ضمير العالم. أمام محرقة حارقة وشاملة وجامحة ومجنونة، أحرقت أحلام آلاف الأطفال في قطاع غزّة، فصيّرتهم قوات الاحتلال التي تفتقد إلى أدنى ذرّة من الإنسانية شهادة دامغة على سقوطها الأخلاقي وهمجيتها ووحشيتها وعنصريتها وعدوانيتها، ودليلا قويا على نفاق الغرب بزعامة أميركا، الفاعل والشاهد والمهندس والمحرّض والمؤطر والمهدّد، والمتخصّص في بيع الأوهام لدول المنطقة التي بدت مشلولة الإرادة منكسرة مرتجفة، ومكتفية ببيانات ضامرة، ونداءات لا قوّة لها لوقف حرب الإبادة، في وقت ضربت فيه حكومة نتنياهو كل شيء عرض الحائط، ورمت كل القوانين والقيم إلى القمامة، وتحدّت الأمم المتحدة والعرب والمسلمين قاطبة، فلا وقت لحكومة الحرب تلك سوى للقتل وسفك الدماء والتدمير والتطهير العرقي، بمبرّر القضاء النهائي على حركة ومقاتلين اتخذوا من الأنفاق غرف عمليات، وبمبرّر تحرير رهائن إسرائيليين. رفض نتنياهو رفضا قاطعا وقف الحرب، بل تحدى المجموعة الدولية والرأي العام العالمي الذي ما زال يتظاهر شرقا وغربا شمالا وجنوبا، فما دام المجتمع الإسرائيلي مؤيدا مواصلة حرب الإبادة الجماعية، فهو لن يتراجع، ولو طالت الحرب شهورا، بل أعواما، وهو موقف زكّاه كالعادة الرئيس الأميركي، بايدن، وإدارته، بذرائع ووسائل مختلفة، ووظف من أجل ذلك استعمال حقّ النقض (الفيتو) مرتين في مجلس الأمن، للحيلولة دون وقف العدوان الإسرائيلي على أكثر من مليونين من المدنيين.

سايرت دول في الغرب، من دون شعور بأي حرج أخلاقي، كل ما سوّقته وسائل الإعلام والدعاية في إسرائيل من سرديات ووقائع مفبركة وأخبار مضلّلة

ما يثير الانتباه في هذه النكبة الجديدة الاصطفاف الأعمى لمعظم الدول الغربية إلى جانب إسرائيل. حيث صدّقت، منذ الوهلة الأولى، كل ما روّجته الحكومة المتطرّفة. وسايرت، من دون شعور بأي حرج أخلاقي، كل ما سوّقته وسائل الإعلام والدعاية في إسرائيل من سرديات ووقائع مفبركة وأخبار مضلّلة. وهذا الغرب، في حكوماته، الإنساني والعقلاني والديمقراطي والحداثي والعلماني والمتقدّم جدا، المدافع عن حقوق الإنسان وحقوق الحيوان، لا شك أنه تابع ويتابع ما ارتكبته وترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي، من مذابح وإبادة وجرائم حرب في قطاع غزة، في عملٍ حثيثٍ لمحو القطاع ومسْحه من الخريطة. وبصرف النظر عن المواقف الفكرية والأخلاقية إزاء حركة حماس، وطبيعة العملية التي نفّذت تحت مسمّى طوفان الأقصى، تعرف الدول الغربية جيدا أن إسرائيل، منذ عقود، تقتل وترتكب المذابح، وتعذّب وتهين وتعتدي على المقدّسات والبشر والشجر والحجر. وفي مختلف السياقات والمحطّات المأساوية، ظهرت بمظهر عصابات فاشية، مدجّجة بالسلاح والحقد والكراهية والعنصرية والتطهير العرقي. وفي الوسع أن يقال هنا، في هذا السياق، إن العام 2023 الذي ودعناه أمس، كان، على نحو معين، عام الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في فلسطين، وعام السقوط الأخلاقي للإدارة الأميركية وعدة حكومات غربية.
ليتذكّر هذا الغرب ما جرى أخيرا في جنين والقدس ومدن فلسطينية أخرى من دمار وخراب وتقتيل وحصار وإهانات. وكيف استبيحت فضاءات المسجد الأقصى مرّات. هل خفق قلب هذا الغرب الشفاف الرهيف الرومانسي، وهو يشاهد فصول الهستيريا التي أصابت قوات الاحتلال في مشهد قيامي، مستعملا عشرات الطائرات المتطوّرة ومئات الآليات والدبابات والمركبات والمسيّرات والحوامات، وألوية ومشاة لفرض حصار قاتل وشامل على سكّان قطاع غزّة، لتدمير مدنه ومخيماته وأريافه وقراه، بباعث الرغبة في الانتقام وارتكاب محرقة حقيقية، وليثبت جيش الاحتلال فعلا أنه أقوى جيش في العالم، لكن أمام الأطفال والشيوخ والنساء؟

مقاومة الشعب الفلسطيني ستبقى، ولن يستطيع أحدٌ استئصالها أو إخماد لهيبها، فمنذ عقود والفلسطيني يدافع عن حقوقه

رغم كل هذه الترسانة، يستنجد هذا الجيش الذي يتقن العربدة والغطرسة بالولايات المتحدة والدول الغربية، ويستقوي بحاملات طائرات أميركية وبريطانية، وبمنظومة إعلامية غربية متراصّة الصفوف ومضلّلة. هل يتطلّب الانتقام والاقتصاص من حركة مسلحة تعبئة مئات الآلاف من قوات الجيش والأمن؟ هل يستدعي ما أصاب إسرائيل، على خلفية عملية طوفان الأقصى من انهيار معنوي ونفسي، كل هذا الاستنفار والجنون والحقد والعداء والتدمير والقصف المتواصل وغير المسبوق؟ علما أن المواجهة الحالية بين إسرائيل الدولة المحتلة والمقاومة. تشارك فيها الأجنحة العسكرية لمجموعة من الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح. علاوة على حالة من الانتفاض والغضب في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها. حيث المواجهات ساخنة بين الفلسطينيين وأفراد الجيش الإسرائيلي، وحيث سقط حوالى ثلاثمائة شهيد. ولذلك، التركيز على "حماس" مقصود ومفكّر فيه. والغرض منه تأليب الرأي العام الدولي، وتسويق وتعميم سردية إسرائيلية، تتأسّس على زعم أن حماس "حركة إرهابية"، لا تمثل الفلسطينيين المؤمنين بالسلام والتعايش مع الاحتلال، وتدعو إلى تدمير إسرائيل، فيتحوّل وفق هذه السردية الظالم إلى مظلوم، والمحتلّ إلى كيانٍ له حقّ الدفاع عن النفس، وفق فهمه ومزاجه وتأويلاته.
ليست المقاومة الفلسطينية جيشا نظاميا، يتطلّب كل هذا التجييش والتأجيج والتسخين، وزجّ قوى عظمى غربية في مغامرة، ربما لا تعلم جيدا مآلاتها على المدى البعيد. العدوان والقصف والقتل والحصار، وتجاهل حقوق الفلسطينيين ومطالبهم ليست حلا، وانتعاش الكراهية وتغذية الحقد، وتسليح المستوطنين وتحريضهم ضد سكّان عزّل آمنين ليس مشجّعا على أي خطوة للتهدئة.
هل البقاء تحت رحمة الصواريخ وصافرات الإنذار والملاجئ والخوف والرعب، يريح المجتمع الإسرائيلي ويطمئنه؟ مقاومة الشعب الفلسطيني ستبقى، ولن يستطيع أحدٌ استئصالها أو إخماد لهيبها، فمنذ عقود والفلسطيني يدافع عن حقوقه، ويواجه الظلم والإهانة والقمع يوميا. ويكفي الحكومات الغربية، بزعامة الولايات المتحدة، أن تتأمل وتتفحّص جيدا، مشاهد التدمير والقتل والإحراق والعربدة، التي طافت العالم سنواتٍ، لتدرك وبكيفية واضحة وجلية، تصرفات وممارسات موغلة في الهمجية والبلطجة. وغير مبالية بالقيم والقوانين والأعراف، ولتقف على حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، عسى أن يتحرّك ضميرها ولو مرّة واحدة لإنصاف الشعب الفلسطيني.

ستظل المنطقة مشتعلة وبؤرة ساخنة، وسيظلّ الصراع محتدماً وقائماً، ما لم تقتنع إسرائيل بحقوق الفلسطينيين

ستظل المنطقة مشتعلة وبؤرة ساخنة، وسيظل الصراع محتدما وقائما، ما لم تقتنع إسرائيل بحقوق الفلسطينيين، وما لم تقتنع بأن أمنها الحقيقي والفعلي يمرّ عبر الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. مع تمتّع هذه الدولة بكل المقوّمات الضرورية، خصوصا الأرض والأمن والموارد. لا يجب أن تظلّ إسرائيل، الدولة والمجتمع والنخب، سجينة الرؤية العسكرتارية التي تصوّر الفلسطيني إرهابيا وخطرا لا يُؤتمن، ومصدر خوف وتوجس مرضي. استراتيجية الحرب الدائمة وتكسير العظام والاقتحامات المستمرّة والهدم والاعتقالات والعقاب الجماعي والتعذيب والتهويد وتغوّل المستوطنين. والانتقام باللجوء الى القصف الجنوني والعشوائي جوّا وبرّا وبحرا للمنازل والمؤسّسات والمنشآت وإزهاق أرواح آلاف الأبرياء. لن تفيد في شيء. ولن تحل المشكل، ولن تحول دون مطالبة الفلسطينيين بحقوقهم، والتفكير في كل الوسائل للحصول عليها لوضع حدّ لمنطق الاحتلال والاستعباد. ولن تمنع هذه الاستراتيجية المقاومة الفلسطينية من تطوير أساليب كفاحها وأدوات نضالها. هناك مسار واحد لضمان الأمن والسلام. هذا المسار هو القبول بفكرة التعايش وبمبدأ حسن الجوار. 
ليس هناك شكّ في أن إسرائيل، إذا تسلحت بالشجاعة الأخلاقية، وأقدمت على مراجعة جريئة لمواقفها المتصلبة ومعتقداتها المطلقة، ومسلماتها التي يتأسّس معظمها على الأسطورة والخرافة. وقبلت بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وبتفكيك المستوطنات، وذعنت لقرارات الشرعية الدولية وتخلت عن سياسة التمييز العنصري، فإنها سترتاح وتريح. وإذا استعصى على إسرائيل الانخراط في هذا الورش التاريخي، فإن من الممكن أن تفكّر في حل الدولة الديمقراطية الواحدة، المتصالحة مع كل مكوّناتها والمؤمنة بحقوق جميع هذه المكونات، وعلى استعداد لتكون دولة متعالية عن العرق والعصبيات والمذاهب والمعتقدات والخرافات، دولة تتّسع للجميع، وتحترم فيها المؤسّسات والفضاءات التي تمارس فيها الشعائر الدينية. بعيدا عن الاستفزازات واستدعاء الأساطير، كما يحدُث اليوم لإهانة المسلمين والمسيحيين والمساس بمقدّساتهم.