عن كارلوس الإرهابي والمقاوم

عن كارلوس الإرهابي والمقاوم

05 ابريل 2017

كارلوس أمام المحكمة في باريس (30/11/2004/فرانس برس)

+ الخط -
لا تعوزنا الوقائع في إثبات صفة "المقاومة" عند إيليتش رامبريز سانشيز، المعروف باسم كارلوس "الثعلب"، الشاب الشيوعي الفنزويلي الأنيق، ذي الكاريزما المهيبة، وصاحب سبعة ألسنة من بينها العربية، و"الفلسطيني بحكم ضريبة الدم التي دفعها ضد إسرائيل"، بحسب توصيفه نفسه. صادق جورج حبش، وانخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الرأس المدبر لعملية احتجاز وزراء منظمة أوبك (الدول المصدّرة للنفط) منتصف السبعينيات. وخطط ونفّذ عمليات عدة شغلت العالم، طاردته أجهزة الاستخبارات العالمية عبر أربع قارات طيلة عقدين، لكنه كان يفلت من الاعتقال دائما. المرة الوحيدة التي سقط فيها في قبضة رجال الأمن الفرنسيين تمت بتواطؤ مع حكومة السودان التي "باعته بملايين الدولارات" كما قال، وكان أن حكمت عليه محكمة فرنسية بالسجن مدى الحياة مرتين، بتهمة قتل رجال بوليس في باريس.
عرف كارلوس الإسلام بحكم وجوده في الشرق الأوسط وعلاقته بالقضية الفلسطينية، وعدّ نفسه "مسلما ثوريا"، بعدما راجع فكره ليدعو إلى "المزج بين الماركسية والإسلام، باعتباره الإمكانية الوحيدة للتغيير أمام هيمنة الولايات المتحدة، ولإنهاض الشعوب المستعبدة". وبدأ يوقّع خطاباته بعبارة "الله أكبر"، وقد أعطته الزنزانة التي رقد فيها فرصةً للتأمل والتفكير، وهو الذي اعتاد التنقل والحركة النشطة متخفيا بين هذا البلد وذاك، وخرج من تلك التجربة بتوليفةٍ من الأفكار الثورية، استطاع إخفاءها عن عيون حرّاسه، وتهريبها إلى خارج السجن، حيث جمعها أحد مريديه في كتاب "الإسلام الثوري" الذي اعتبر شبه محظور، لجرأته في دعوة "كل الثوريين من يساريين، وحتى ملحدين، إلى القبول بقيادة الإسلاميين لهم، خصوصا أسامة بن لادن، لمحاربة الطغاة والمسحوقين، ولتحويل العراق وأفغانستان إلى مقبرة للإمبريالية الأميركية، ولمواجهة احتلال الأماكن الإسلامية المقدسة، وفي مقدمتها القدس،... ولأن الإسلام حالةٌ متفرّدة فإن ائتلافا بين الماركسيين والإسلاميين فقط بإمكانه أن يدمر الولايات المتحدة". واعتبر واقعة تفجير برج التجارة العالمي "نهايةً لعالم الكذب والزيف واللاوعي، وانتقاما لبؤس العالم الثالث، ووضعت حدا لغفلة الغرب، وبرز الإسلام من خلالها قوة عالمية وحيدة، قادرة على حماية الأمم المقهورة، انطلاقا من روحه الثورية"!
مرت أربعة عقود على أول ظهور للثعلب الماكر، شهد العالم فيها تحولاتٍ شتى، اختلط مفهوم المقاومة بمفهوم الإرهاب، فلم يعد المرء ليميّز بين الخيطين، الأبيض والأسود. وسقطت "اشتراكيات" كانت سندا لمقاومة الشعوب، وداعمة لتحريرها، وانكفأ "يساريون" أفنوا شبابهم في مقارعة الإمبريالية، ليصبحوا اليوم "مواطنين صالحين" في عواصمها، وولدت "داعش" النسخة المنقّحة لتنظيم القاعدة، لتغرق العالم بالدم، ولتقيم منصّتها العالمية على أرض إسلامية عربية خالصة. في خضم هذا كله، عاد كارلوس إلى الواجهة، ليحاكَم مجدّدا عن تهمةٍ أخرى، ولم يعوز الوسائط الإعلامية ما تقيم الدليل من خلاله على أن كارلوس إرهابي بامتياز، وهي، على حد ما نبشته من تقارير عتيقة، ومجريات أحداث فائتة وماثلة في الأراشيف، أو مثبتة على "غوغل"، وجدت ما يجعل منه "واحدا من كبار إرهابيي العصر"، كما وجدت في "توليفته" الفكرية، وفي ثباته ومقارعته سجانيه ما يفرض الحكم عليه بسجنٍ ثالث مدى الحياة!
اعتبر كارلوس الحكم الجديد نوعا من النكاية به، وقال محاموه إنه ليس ثمة دليل مقنع على تورّطه في ما اتُهم به، فيما نظر آخرون إلى الحكم على أنه ثأر مشروع للضحايا، لكن الملفت هو صمت رفاقه السابقين من الشيوعيين واليساريين الذين انتظم معهم عقودا، والإسلاميين الذين دعا إلى التحالف معهم، وأيضا الفلسطينيين من رجال المقاومة وأنصارها، وقد اكتفوا جميعا بالتفرّج من بعيد على محاكمته الجديدة عبر القنوات الفضائية، ولم يطرحوا رد فعل ذا قيمة!
وهكذا عاد الثعلب المتأرجح بين المقاومة والإرهاب إلى زنزانته، ولربما سيجد هذه المرة الفرصة أكبر للتأمل والتفكير، وقد يعيد النظر في توليفة أفكاره الأولى، بعد أن اكتشف أن رفاقه السابقين من اليساريين قد خذلوه، ولم يذكروه بالخير، فيما سقط الإسلاميون المتطرّفون في وهدة الإرهاب الأعمى، إذ أقاموا دولة خلافة زائفة اهتمت بقطع الرؤوس، وحرق البشر، وتدمير الأثر والحجر، وإذا ما قدّر له أن يقضي مدة سجنه الأبدي، ويعود إلى الحرية، فقد لا يجد ذكرا طيبا عنه في كتب التاريخ، بعد أن سلبت منه صفة "المقاومة المشروعة"، وأصبح "إرهابيا"، وتلك هي مأساة النهاية.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"