في النهاية لن يربح سوى الموت

في النهاية لن يربح سوى الموت

27 مايو 2015
+ الخط -
كأنما كُتب على العراق أن يعقم عن إنجاب "قامات عالية"، يمكن أن تشغل مواقع السياسة والحكم بجدارة، وإلا كيف تسنى لزمرة "الرجال الجوف" القادمين من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، والسائرين كتفاً لكتف، خوف ضياع ما غنموه، والمتوكئين على أولياء نعمتهم في واشنطن أو طهران، كيف تسنى لهم أن يتصدروا المشهد السياسي دزينة من السنين اليابسات العجاف، غير مبالين بما يلحق ببني جلدتهم من أذى، وغير عابئين بالعار الذي يلاحقهم، ومن دون أن يتصدّى لهم منازع؟ 
قيل للجنرال ديغول: "عندما تسوء الأمور، ويصعب الحل، ما ترى على المواطن أن يفعل؟" أجاب: "عليه أن يبحث عن القامات العالية، وسيجد عندها الحل الحكيم". لم يجد العراقيون "قامات عالية" بين من جاء بهم الأجنبي على ظهور دباباته، ليلتمسوا منها الحل، لإنقاذهم من الأزمات التي عصفت بهم، منذ الغزو الذي أوقع البلاد تحت احتلالين، وترك نصف مساحتها بيد "تنظيم الدولة"، وسيّد على أبنائها أفراد المليشيات والمافيات وشيوخ القبائل، على نحو لم يألفه التاريخ العراقي، حتى في أشد مراحله سواداً، وأفقدهم هويتهم الوطنية الجامعة، حتى أصبح الواحد منهم لا يجد، لضمان أمنه وأمانه، سوى التوكؤ على طائفةٍ، أو عرق أو عشيرة، أو حتى على قرية صغيرة!
هكذا تداعى عصر "القامات العراقية العالية" التي أسست الدولة الحديثة، وسعت إلى بناء مجتمع العدل والحرية والديمقراطية، وتصدرت المشهد السياسي، حكومة ومعارضة، سواء في عهد الملوك، أو في عهود الجمهوريات، وإن تعددت رؤاها في التحديث والبناء، ولم نعد نجد، في أيامنا هذه، حركة سياسية وطنية ذات قاعدة عريضة، وصاحبة رؤية وموقف، لها قوة التأثير والفعل، كما لم نعد نمتلك زعامة قادرة على توحيد البلاد، ومغالبة هذا الجيشان الطائفي الأحمق. وفاقم مأساتنا انكفاء النخب الوطنية المعارضة، بعد هجرة أغلب قياداتها إلى المنافي، واستحالة إنقاذ الأوضاع عبر "العملية السياسية" التي صنعها المحتلون، حتى صرنا على أعتاب انهيار شامل، ينذر بواحدة من كارثتين: التقسيم أو الحرب الأهلية، فيما يبدو أن "الحل الثالث" لم يعد سالكاً.

يزيد من وجعنا ما نسمعه أو نقرأه من أخبار، تطفح بها الوكالات والفضائيات التي تعكس جانباً من الحال، وآخرها ما حسبناه واحدة من "نكات الموسم" التي يتصيدها العراقيون، ويتبادلونها على مواقع التواصل الاجتماعي، لولا أن مصدر الخبر شخصية سياسية عراقية، قريبة من السلطة على نحو أو آخر، فقد كشف محمد حاجي محمود، رئيس الحزب الاشتراكي الكردي، أن رئيس الجمهورية، فؤاد معصوم، طلب وساطة إيرانيين، للتدخل لدى إحدى مليشيات "الحشد الشعبي" في مقابل إطلاق سراح أربعة من حراسه الشخصيين الذين كانت قد اختطفتهم، واللافت أن "الرئاسة" نفت الخبر "جملة وتفصيلا"، كما قالت، كما نفت أنها "طلبت وساطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، إلا أنها عادت وأكدت صحة الواقعة، وقالت إن "رئاسة الجمهورية تمتلك سبلها الخاصة لمتابعة عملية إطلاق سراح المختطفين"!
لكم شعرنا بالشفقة، ونحن نقرأ أن مسؤولا كبيراً بدرجة "رئيس جمهورية" يعجز عن أن ينقذ حراسه الشخصيين من محنة اختطاف رجال المليشيات لهم. كيف، إذن، للمواطن المهمش البسيط أن يأمن على حياته وماله وعرضه من تسيد المليشيات وسطوتها وسلطتها التي أوشكت أن تعلو على سطوة الدولة وسلطتها، ما حاله إذا ما تعرض للاختطاف، أو حتى للقتل العمد، وما الذي بإمكانه أن يفعله، هل ثمة "قامات عالية" يستنجد بها فتنجده؟
يتبدّى أمامنا هنا، على نحو مريع، مشهد هذا المواطن، وهو يسير نحو المجهول، نازحاً أو لاجئاً، أو حتى مقاتلاً معصوب العينين في صفوف هذا الفصيل أو ذاك، وهو في سيره يشبه الشيخ العجوز الذي تحدث عنه مرة النمساوي، بيتر هاندكه، الذي يخرج من بيته تحت المطر كل صباح للتسوق، وفي ذهنه أنها قد تكون المرة الأخيرة في حياته التي يستطيع فيها الخروج، وبعدها وربما قبلها، سيكون الموت حتفه. لكن العراقي، بكل براءته ووداعته، وحماسه لما يعتقده صواباً يظل ملتزما بالخروج كل يوم، وقد علمته تجربة السنين السود التي أعقبت "السقوط" أن خروجه وبقاءه في بيته سيان، وهو، في الحالين، قد يلاقي حتفه بمسدس كاتم بيد مليشياوي جبان، أو جراء عبوة غادرة زرعها إرهابي أحمق.
هكذا يختبر العراقي حياته، حتى لو كانت على حد الموت، هو لا يستطيع انتظار أحد ليعلق الجرس في رقبة القط، فهذا "الأحد" يجيء ولا يجيء، ولا جدوى من انتظاره. الانتظار أشد قسوة ومعاناة من استقبال الموت. مرة نقل عن ستالين قوله: "في النهاية لن يربح سوى الموت".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"