المثقف وكعب مصر العالي

المثقف وكعب مصر العالي

23 مارس 2017
+ الخط -
1 – الآن، باتت شتائم النائب ورئيس نادي الزمالك، مرتضى منصور، طرية جدا على قلب المثقف المصري، وخصوصا بعدما عرف وتيقن من سعادة النظام بها، وقد صارت واضحةً ومعلنةً ومختومةً بختم الشعار، فكيف استطاع النظام أن يوازن بعبقريةٍ، يحسد عليها ما بين موسيقى عمر خيرت وشتائم مرتضى منصور؟
2 – المثقف المصري عجيب بالفعل، يفرح جدا ويصهلل لتهجير بدو سيناء وأهاليها، ولا يوقّع على بيان، لا في قهوة الفيشاوي، ولا في قهوة بعرة، بل يذهب عامدا إلى افتتاح أي فيلم سينمائي كي يقضي باقي السهرة في بحبوحة المساء، ويا حبذا لو كان في الافتتاح عادل إمام وعمرو موسى، ويا حبذا لو ضربت في الافتتاح زغرودة من فيفي عبده، ثم تكلمت في القضاء والقدر والرضى بالمقسوم، ثم دخلت في السياسة، وقالت "مصر دي حاجة كبيرة أوي، ومحدش يقدر يدوس لها على طرف"، فتزغرد دينا من آخر الصفوف، وقد تكون في الحفل صافينار، ولكنها لم تكسر بعد "حمرة خجلها"، لكي تخرج وتهز الحفل هزا، أو علّها لم تأخذ الأوامر في وجود الساسة والسفراء.
في الصباح، يهجر إخواننا الأقباط من قلب سيناء والعريش، فيخرج المثقف بوشاح النيل باكيا، والكاتب المصري حزينا على حوائط المعابد، ويبدأ فيضان نهر الدموع والبيانات وتبدأ التماسيح، هل هذه قسمة ضيزى في عقلية المثقف الذي يهتم فقط بنكبات الحضر، ويتجاهل أهل سيناء الذين منهم الأبطال والشهداء والقادة، أم قسمة مدروسة، أم قسمة متفق عليها سلفا؟ نفسي في باحث مثل عالم الاجتماع الفرنسي، ميشيل مافيزولي، صاحب كتابي "تأمل العالم" و"مزايا العقل الحساس" يضرب لنا مقصا في عقلية المثقف المصري، كي نرى فيه تلك المسافة الحادة ما بين الصحراء والحضر، ونرى بوضوح المسافة المتوهمة ما بين عاقول الجمال في صحراء سيناء وعاقول الجمال أيضا على ترع نهر النيل ومصارفه، فقد يستفيد من ذلك علم الصيدلة.
3 – جمعتني بالراحل الناقد المرحوم فاروق عبد القادر ليلة ليلاء، رأيت فيها مشارب المثقفين في ساعات الحفاظ على المهابة (والبرستيج). كنا في مكان، وقد اكتظ بما يقرب من ثلاثين من مثقفي وسط البلد، وكان المكان عامرا بالضحك، والنسمة طرية، وكان الجو بديعا والمزاج وردا، ولا معكّراً صفو أحد. فجأة، دخل ثلاثة شباب المكان، وبعد ربع ساعة ماطلوا في دفع الحساب، بحجة قلّة الفلوس، وبادروا بالعنف وتكسير المكان. خِفت على عم فاروق أولا، باعتباره رجلاً كبيراً ومهيبا، وجلست على مقربة منه، فابتسم وسكت، وبدأ الهروب الكبير، لمّ شاعر صوفي ثمانيني خواتمه وجرائده التي يقدمها لكتّاب السبعينيات عربون محبة، قبل أن يصير مشهورا، وجرى أولا من الباب، وتبعه غيره، وجرى ناقد كان ينتظر ساعتها على أحرّ من الجمر أن يكون رئيسا للثقافة الجماهيرية، الغريب أنه لم ينلها، بل صار وزيرا بعد الثورة شهوراً، وبعد الوزارة، صار عضوا في حزب ساويرس، فجأة وجدت المكان فارغا، إلا من الثلاثة شباب، بعد أن أغلق صاحب المكان عليهم الأبواب، واستدعى الشرطة، وبجواري عم فاروق. أنظر لعم فاروق، وأرى ابتسامة ساخرة وسعادة ما على جانب غامض من نظرته، وأخيرا قلت له: "يلا يا عم فاروق عشان مشاكل البوليس والدوشه"، فنظر إلي بتمعن وابتسم، وقال لي: "كي تكون قاصّا يا عبيط لا بد أن ترى نهاية الأحداث"، فسكتُّ.
طالت جلستنا نصف ساعة، وابتلع الشباب بقية ما معهم من برشام، وعاودوا إلى التكسير، وعم فاروق يتأمل المشهد في سكونٍ وصفاء، من غير أي انزعاج أو توتر، حتى جاء البوليس، فاستسلم الشباب ككتاكيت وديعة، ومن بعيد، ونظر الضابط بربع عين لعم فاروق، ولم يقترب، ومشى الجميع، بعدما أغلق المكان. وهنا، قال لي عم فاروق: يا أبا حيدرا، سنكمل مشهدنا في "علي بابا". وفي "علي بابا"، جاء علي شاهرا سيف شجاعته، وجاءت فاطمة، وجاء الحسن والحسين، وجاءت كربلاء، وجاء الموالي من كل حدبٍ من جزيرة العرب، وبدأ بكاء عم فاروق مع حنظل التاريخ والقتل. ليلتها عرفت أن المثقف ليس هو البايب، ولا البنطلون والقميص، ولا السهر، ولا الصياعة، بل أشياء أخرى، تتكتم عليها الأرواح في صفاء ونبل، حتى يأتي الموت.

دلالات