اعترافات حزينة لكاتب

اعترافات حزينة لكاتب

25 يوليو 2015
+ الخط -
انتقاداتي الحادة للنخبة، سياسية كانت أم ثقافية أم أكاديمية، أراها من وجهة نظر إنسان منحاز لمحبة البسطاء والمهمشين، لا ديكورا ثقافيا أو دعائيا، فأنا ابن فقراء، ولا أحمل أيديولوجية حزبية أبدا، وليس لي في الكهنوت الحزبي، بل أكرهه إن شئت التحديد. أنا بدوي، وإن لم أسكن الصحراء. ولذا، أحب سيرة الصعاليك، ولا أطيق إلا الأماكن التي أحبها، وعادة ما تكون بسيطة. لا أحب عجرفة المعرفة، وأهرب من أمام أي متكلف أو صاحب ميوعة عاطفية. أنا فلاح وابن قسوة، وجئت المدينة إلى بولاق الدكرور، ولا يوجد عليّ فضل لأي مؤسسة. أول وثاني كتبي كانت من دار نشر خاصة، ونشرت وأنا على أعتاب الأربعين، وليس لي أي أحد من عائلتي كتب شطرا من شعر، أو تعلق بكتابٍ، سوى خالٍ لي توفاه الله، كان يكتب الشعر حينما تم حصاره في الدفرسوار، وكان مهندس كهرباء في مناطق قسطل وتوماس وعافية، ولما عاد من الجبهة أفرغ كل همومه في عمله والسجائر فقط. 
كل عائلتي (لأبي)، إما غنّامة أو صغار فلاحين. ولذا فالنخبة عندي من عشرين سنة هي موضع سهامي. لا أعني نخبة الطيبين، كالراحل فاروق عبد القادر أو عبد الغفار مكاوي أو إنجي أفلاطون أو الطيب نجيب محفوظ... إلخ، إلخ. ولكن، أعني نخبة الكهنة وبرجوازيي الأجور، أفرّ منهم، والغريب أن سهامي اصطادت علي سالم، قبل أن يذهب إلى إسرائيل بسنوات، وكانت ليلة ليلاء، وكلما رأيته مصادفةً، بعد ذلك أطل لعينيه خفيفا، وأحس كم كنت ليلتها على صواب.
أنا راعي غنم. أعرف جيدا عيون الذئاب، حتى وإن كانوا في دثار من حرير، والبايب لا يفارق شفاههم، وأعرف أيضا الفقير، حينما يتسلق تسلق اللبلاب في مزاود الأدب.
أنا الذي صاحبت البلهارسيا 15 سنة، وخرجت طيب القلب إلى حد ما. أنا آخذ حق أقراني الذين راحوا. هذه المدينة الواسعة ليست عندي أكثر من كرسي في (مقهى الحرية)، حيث ماسح الأحذية أكثر نبلاً من جنرال يخون الأمانة، وحيث القطط أكثر أمومة من أحزاب وسط البلد، وحيث (علي مولا) أكثر فضلا عليّ من مطابع الكتب في هيئة الكتاب.
كل كتاب بلدي كانوا مع أحمد شفيق تمهيداً للجنرال، لأن دخان البايب دائما يدفع ثمنه الجنرال، ودائما يشتعل دخانه من لهب كبريت هتلر أو معاوية، ولا يشتعل من بركات سوار الذهب أو سنجور أو الحسين أو الحسن أو علي كرم الله وجهه. ولذا، هم مع غلال المؤسسة والمجلس البلدي ليلاً، ويغنون للقمح والأجران والفقراء والجذام والزنوجة ليلا.
في الصباح، يحبون الشاي تحت تكعيبة عنب أو في المقابر. وفي الليل، يسيل لعابهم على خيمة القذافي وجوائزه، ومبارك وجوائزه، والأسد وحملانه وقصوره، وإن كانوا من أكابر الحداثيين. أغلب من أعرفهم من شباب الكتاب، فرّ إلى سفارة أو هاجر بعدما تعب من حمل البطيختين، ولما حضر الدكتاتور على الأرض بالفعل، سكتوا هناك، وكأن رامبو المعشوق كان لا بد أن يتاجر في العاج، وحتى العبيد لو شاء.
دور النشر الصغيرة إما مهداة من المخابرات، أو أن أصحابها من كبار اللصوص لدماء الكتّاب. الصحافة الأدبية تدار بالأوردر والأجندة، وكل محرر على دين رئيسه، حتى يمنحه جائزة يتزوج منها، وكلهم تحت إمرة الجنرال بأمر من "الزيني بركات"، حتى وإن ظهروا بملابس عصرية. الفضائيات تدار بـ(منفلة الأمن الوطني والمخابرات) ليلاً، لدرجة أن المذيع، والله العظيم، يغير جملته، حينما يهفو في تعبير غير موفق، وأحياناً نسمعه مصحَّحا من المايك، ولا أحد يخجل. نفسي أكتب في يوم عن برديائيف، ونفسي أمسك قنوط سيوران، بعدما أعلن عن فساد الرأي العام في قارة عجوز، بعدم ترك جباله بنداها في رومانيا، وعاش عمره في باريس.
الكتب أجمل صحبة من الناس بكثير. حينما يقل معارفك، فأنت على الطريق، وحينما ينعدمون فهذا يوم عيد، ولا أجد أمامي أجمل من بيت شعر نبطي، حفظته في يوم من دون الدخول في التجربة ساعتها:
عاشرت ناس عليَّ صعيب فرقاهم/ وفارقت ناس مالي في هواهم هوا.