الإنسان العادي والقارئ العادي

الإنسان العادي والقارئ العادي

07 مارس 2024

(لؤي كيالي)

+ الخط -

متعة أن تتأمّل ذلك الرجل العادي، الذي يمشي هناك وكأنه ذلك المسكين الوحيد في ذلك الكون من دون مراوغة أو استعطاف، لا يسبقه تاريخه ولا عائلته ولا إنجازاته البطولية. يكون وحده سند ظلّه الوحيد وسند خطواته، وغالباً يمشي مجهولاً، ولا يبحث عن أكثر من ذلك، هو خارج المتْن، باستحواذاته العامة ومكتسباته ومباهاته، وخارج الهامش أيضاً، بصخبه أو قلة حيلته أو عنفه كشكل من أشكال رد الفعل، هو ذلك الهادئ جدا في حلّه وترحاله، سواء إلى رزقه أو إلى حال سبيله، وكأنه يصادق ظلّه فقط من دون أن يعي ذلك أو يقرّره أو يعرفه، كرجلٍ بكوفيّةٍ يمشي شتاء في هدوء من دون أن يسأل أحداً أي شيء، فقط يلم علب "الكانز" الفارغة ويضعها في كيس صغير وفي يده عصاتُه، وحينما يتعب من المشي يجلس في المقهى هادئا من دون كلمة أو ابتسامة، ومن دون أن يرسم على محيّاه غضبا أو هموما من أيِّ نوع. هو هكذا وفي كامل توازنه، ولم أرَه من سنواتٍ يتحدّث مع أحد. ورغم ذلك، أراه دائما في جلبابٍ نظيفٍ وشبه مهندم أيضاً، وعمامته أيضا، كما يحلو أن يلفها بهيبةٍ في الشتاء.

كيف تخلّص ذلك الرجل الستّيني من كل ذلك الإرث الوجودي صخباً وسعياً، واكتفى بالذات والاعتكاف مع مكنوناتها في صمتٍ وأدب، ففي أي كتابٍ يقرأ، ومع أيّ نجومٍ يقرأ طالعه وما سوف تخفي له أيامه في ذلك الهوْل الذي نعيشه ونخافه جميعا، فقيراً أو غنيّاً؟ هل له ذلك الكتاب الخفي الذي يمشي معه كظل، ففي أي رفٍّ يخفيه؟ هل من خلال ذلك الرجل أستطيع أن أعرف أو أقرأ القارئ العادي، لا كما أشارت إليه فرجينيا وولف في تحفتها "القارئ العادي"، ولكن كما أتخيّله على الأقل؟

وأسأل، على هامش كلامي عن ذلك الكتاب "القارئ العادي"، لماذا لم تطبع منه طبعة أخرى رغم أنه مرّ على طبعه في هيئة الكتاب المصرية أكثر من 50 سنة، وأعلم تمام العلم أن هناك من الكتّاب "الأقلّ من عادي بكثير"، تطبع أعمالُهم الكاملة للمرّة الثالثة أو الرابعة، وحينما تصبح الكتب بكاملها في الرزم مرميةً في مخازن الهيئة، تحمل الأطنان في عرباتٍ نصف نقل إلى مخازن الهيئة في الهرم، كي تكون طعاما للفئران، رغماً عن أن آباء الحداثة وأمهاتها استنسخوا من هذا الكتاب أغلب أطروحاتهم ومقالاتهم، وعلى سبيل المثال فقط، مقولة "الكتابة بقوّة دفع اليوميّات" في بداية الألفية الثالثة.

هل القارئ العادي هو ذلك العابر فوق الكتب والأرفف والمطبوعات والموضات، وكأنه يبحثُ عن خرافة ما تخصّه هو، أو محبّة طيبة وساذجة تليق به أو وكأنه يبحثُ عن قيامةٍ ما أو عن كنز ما أو عن صديقٍ غامض كان قد رآه في كتابٍ ما، وظلّ هذا هو بحثه في كل كتابٍ يقع في يديه من دون أن يعرف نظرية في القراءة، ومن دون أن يراكم خبراته في بنوك المعرفة، هو يمشي، مع الكتب أو في ظلالها وأشباحها، كذلك الرجل العادي تماما داخل المقهى من دون أن يناطح العارفين أو أصحاب النظريات؛ الأول يهتدي بخطواته والثاني يهتدي بأطياف الكتب ودلالاتها. أو بمعنى آخر، كما يقول الدكتور جونسون، عن ذلك القارئ العادي أو الفطري إنه "الذي لم يفسده التحيّز الأدبي المكتسب بالمهارات الرفيعة والتعصب العلمي"، أي أن "القراءة بالنسبة إليه متعة، قبل أن تكون سبيلاً إلى المعرفة".

هل القارئ العادي هو الذي أخذ، بالكتاب، إجازة من الدنيا عامداً أو كما يقال "هو كثيراً ما يصادف في أثناء القراءة بعضاً من المعلومات الضعيفة البعيدة عن المنطق، التي تحقّق له الرضا الوقتي، إذ تبدو كالأشياء الحقيقية وتتيح له الحب أو المزح أو المناقشة"، وكأنه كالشخص الذي صنع قبواً لحياته وأحلامه، قبواً هشّاً، قبواً من ساعات أوهامه فوق ورقٍ مطبوع، أو أمام شاشة عرضٍ في ظهيرة في سينما مظلمة إلّا من الشاشة. وبعد العرض، يذهب إلى محل الكشري، وتطارده أطياف فيلمه حتى يعود إلى غرفته، ذلك الحلم الذي نظلّ على علاقة به، أو تربطنا به أطياف هينة من كتاب أو من أجنحة فراشةٍ أو أملٍ أو انتظار، كبقايا يقينٍ متخيّلٍ نراه في مشية رجلٍ ستّينيِّ العمر يمشي هادئاً إلى المقهى يشرب الشاي وعن يمينه، تحت الكرسي، ذلك الكيس الذي به علب "الكانز" الفارغة، أو رجل صامت ومعه كتابٌ في قطار أو بجوار جُرن قمحٍ وفي يده جريدةٌ قديمةٌ صادفها، أو جنديٍّ يحمل السلاح أمام دشمة الذخيرة ليلاً وفي يده كتاب عن "أحزان فيرتر" والنجوم هناك ترصّع ظلمة الجبال الموحشة وصوت ذئابٍ يأتيه من بعيد.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري