ميشيل عون أو"الفراغ" سلاحاً

ميشيل عون أو"الفراغ" سلاحاً

05 فبراير 2017
+ الخط -
يعود لبنان مجدّداً إلى التخبط في أزماته المتعددة والمتشعبة، بسبب الصراع المستمر بين أركان الحكم الذي تتنازعه مراكز القوى المتعددة الرؤوس الطائفية والمذهبية. وبعد مضي أقل من ثلاثة أشهر على حل أزمة الفراغ الرئاسي التي دامت سنتين ونصف السنة، بانتخاب ميشال عون رئيساً وتشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، ها هي أزمة فراغ دستوري آخر تظهر بقرنها على خلفية مواجهة مضمرة بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي، بغرض السيطرة على الأكثرية النيابية.
سيكون الفراغ نيابياً، هذه المرة، في حال لم يتم التوصل إلى إقرار قانون انتخابي جديد خلال المهلة الدستورية، يقابله رفض رئيس الجمهورية، ميشال عون، تحديداً، إجراء الانتخابات على أساس القانون النافذ حالياً (قانون 1960)، وهو فراغ، على الأرجح، أخطر من الفراغ الرئاسي، لأنه يعني غياب مجلس النواب كأعلى سلطة سيادية تشريعية منتخبة عن الحياة السياسية، وترك إدارة البلد في أيدي الحكومة التي هي سلطة تنفيذية، لا يمكنها، وليس من صلاحياتها دستورياً، أن تشرع أو تراقب أو تسن قوانين، وليس أمامها، بالتالي، سوى مخرج وحيد، هو الدعوة إلى انتخابات نيابية، وعلى أساس القانون الحالي الذي ترفضه، في الظاهر، جميع القوى السياسية.
وهذا الفراغ هدّد به رئيس الجمهورية بالذات، عندما أعلن أمام مجلس الوزراء أنه إذا خُيّر بين التمديد للمجلس النيابي والفراغ، فهو يفضل الفراغ. وقد حاول بعضهم التخفيف من خطورة هذا الكلام، معتبراً أن مقصد عون من طرحه الضغط على القوى السياسية، من أجل وضعها أمام مسؤولياتها لجهة التوافق على قانون جديد، قبل انقضاء المهلة الدستورية لدعوة الناخبين في أواخر فبراير/ شباط الحالي، من أجل تنظيم الانتخابات في نهاية مايو/ أيار المقبل.
ولكن، ليس عون من يخشى الفراغ، وهو الذي جاء من الجيش إلى السياسة عبر "الفراغ"،
وبنى حياته السياسية انطلاقاً منه. فقد دخل المعترك السياسي أول مرة، عبر الفراغ الرئاسي الذي حصل عام 1988، عند انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، إذ لم ينجح البرلمان حينها في انتخاب بديل له. عندها كلف الجميّل عون الذي كان قائداً للجيش بتشكيل حكومةٍ موقتةٍ بانتظار تهيئة الأجواء للانتخابات الرئاسية، إلا أن الجنرال لم يفعل كما فعل سلفه فؤاد شهاب أول قائد للجيش اللبناني الذي أعاد عام 1952، بعد أسبوعين، الأمانة مع انتخاب كميل شمعون رئيساً خلفاً لبشارة الخوري المستقيل. وراح عون يوظف موقعه من القصر الرئاسي، حيث تمركز سنتين، وعمل على بناء زعامة سياسية لنفسه. وفي خريف 1989، أعلن حل المجلس، وحاول منع النواب من السفر للمشاركة في مؤتمر الطائف. وعند انتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية، لم يعترف به، ورفض مغادرة القصر، إلى أن أجبره قصف الطيران السوري على اللجوء إلى السفارة الفرنسية.
عام 2005، وعلى إثر جريمة اغتيال رفيق الحريري، عاد عون إلى لبنان، بعد خمس عشرة سنة من المنفى، وخاض الانتخابات، وأصبح لديه كتلة نيابية وتيار سياسي معتبر، وسمح له ضيق أفق السياسيين بلعب دور الضحية عبر إقناع أنصاره ومؤيديه أنهم لا يريدونه في موقع الرئاسة التي طالما اعتبرها "من حقوقه" المكتسبة. وفي نهاية عام 2006، وعلى مدى سنة ونصف السنة، شارك حزب الله في احتلال وسط بيروت، بهدف إسقاط الحكومة التي كان يرأسها فؤاد السنيورة، والتي لم يكن عون شريكاً فيها. وفي نهاية عهد إميل لحود الممدّد عام 2007، لم تفلح جميع المحاولات لتحاشي الوقوع في الفراغ الذي دام ستة أشهر، بسبب إصراره على أن يكون هو الرئيس، مدعوماً في موقفه الممانع من حزب الله. ثم كان 7 أيار "المجيد" 2008 عندما اجتاح حزب الله بيروت، وأدت الوساطة العربية - القطرية إلى عقد مؤتمر الدوحة الذي لم يرجع منه عون رئيساً كما كان يراهن، وإنما "أعاد" معه، كما أعلن، "الحق إلى أصحابه" المسيحيين، أي "قانون 1960" مع "ماكياج" بسيط، تعديلاً في بعض مقاعد الأرمن في بيروت. ووقع الاتفاق على انتخاب ميشال سليمان رئيساً، وبقي عون ينتظر، ويجب هنا الاعتراف لفخامته بطول صبره وأناته، لانتظاره ست سنوات أخرى، معطوفاً عليها سنتان ونصف السنة من الفراغ بين عامي 2014 و2016.
غادر سليمان الرئاسة في 25 مايو/ أيار 2014 من دون أن يتمكّن المجلس من انتخاب
خلفٍ له. فقد لجأ الجنرال بدعم من حزب الله إلى سلاح التعطيل غير الدستوري، من أجل فرض معادلة "عون رئيساً أو لا أحد". خطط عون للفراغ الذي دام سنتين وخمسة أشهر، عبر تهريب منهجي لنصاب جلسات انتخاب الرئيس مع حزب الله وتيار المردة وبعض النواب من حزبي البعث والقومي السوري والملحقين الآخرين. بات عون مقتنعاً بأن لا شيء يمكن أن يوصله إلى الرئاسة غير الفراغ في موقع الرئاسة، وأن "حقوق" المسيحيين التي يجسدها هو (برأيه) لن تعود إلا بإفراغ الموقع المسيحي نفسه، و"دب الصوت" لمسيحيي المشرق، حتى ييأس ويستسلم كل العرب والدول الصديقة في الغرب. أدرك أن الفراغ هو السلاح الأمضى للابتزاز والتخويف بتدهور أمني، مع تورط حزب الله في سورية".
صمد الجنرال سنتين ونصف السنة، فكان له ما أراد، وها هو اليوم يجلس على كرسي القصر الرئاسي في بعبدا. وإذا لزم الأمر فهو لن يتوانى عن اللجوء مجدداً إلى الفراغ الذي اختبر فعاليته، إذا لم يتم إقرار قانون انتخاب كما يريد، بامتناعه عن التوقيع على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة خلال المهلة الدستورية، أو تمنعه لاحقاً عن التوقيع على قرار التمديد للمجلس الذي يمكن أن يلجأ إليه رئيسه نبيه بري، رداً على عدم إجراء الانتخابات الذي من شأنه أن يلغي موقعه رئيساً للسلطة التشريعية.
فهل يعطي الدستور الحق لرئيس الجمهورية برفض التوقيع على المرسوم؟ يجزم الخبير في القانون الدستوري الوزير والنائب السابق، الدكتور حسن الرفاعي، بأن ليس لرئيس الجمهورية صلاحية التقرير في ما إذا كان المرسوم دستورياً أم لا، ولا يحق له عدم التوقيع على مرسوم عادي وقع عليه الوزير المعني ورئيس الحكومة.
وهكذا يتقدم سيناريو الفراغ بخطواتٍ حثيثة، على خلفية صراع النفوذ بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الذي لم تنتخب كتلته عون، والذي لم يكن هناك يوماً من كيمياء بين الرجلين. ويصبح السؤال الأهم: ماذا سيفعل حزب الله، وأين سيقف في الصراع بين الحليفين؟
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.