النوبة بين الوحدة والانفصال

النوبة بين الوحدة والانفصال

17 فبراير 2017

خريطة تظهر بلاد النوبة بين أسوان ومروى

+ الخط -
تبرز قضية النوبة في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وجهاً متناقضاً لمحاولات الربط الفاشلة بين العروبة والأفريقانية. وما فعلته الحكومة المصرية تجاه قومية النوبة (وهي القومية الأكثر حرصاً على ثقافتها ولغتها في وادي النيل) أنها عملت بسياسة فرّقْ تسدْ، التي انتهجها الاستعمار الأوروبي على الدول الأفريقية في القرن الماضي.
مشكلة النوبة قديمة، منذ أن بنى الاستعمار البريطاني خزّان أسوان عام 1902، فطمرت المياه القرى النوبية، ثم قام الرئيس، جمال عبد الناصر، بمعاونة نظيره السوداني، إبراهيم عبود، بتهجير النوبة في الجانبين المصري والسوداني عام 1963 لبناء السد العالي. قبل ذلك، كانت النوبة موحدة، لا تفصل بينها الحدود السياسية بين البلدين، وكانت النوبة تُطلق على سكان المنطقة من أسوان إلى ملتقى النيلين في السودان. وبعد بناء السد العالي، تم التقسيم السياسي باسم نوبة مصر ونوبة السودان، في أول تفرقة حقيقية للنوبيين، حيث فصل السد والأراضي التي تم تهجير النوبيين منها في الجهتين بين الأهالي والعوائل، فتم توطين النوبة السودانيين في مناطق حلفا الجديدة وخشم القربة، وتم توطين النوبة المصريين في مناطق كوم أمبو وأسنا. وبإبعادهم عن أراضيهم المتاخمة للنيل، فقدوا نشاطاتهم الاقتصادية، وهكذا تفرّقت بأهالي النوبة السُبل ضرباً في الأرض، بحثاً عن الرزق والعيش الكريم.
أفرز هذا الوضع تحركاتٍ معارضةً نشطة، جديدها حركة كتالا النوبية المسلحة، ومع أنّ هذه الحركة وجيهة في طرحها ومطالبها، إلّا أنّ إعلام عبد الفتاح السيسي حاول ربط بروز هذه المطالب بفترة حكومة الرئيس المنتخب محمد مرسي، حتى يتم إخمادها تحت أوهام الخلاص
الذي سيكون هو بطله. ولبُعد صوت النوبة عن الإعلام الرسمي، كان من السهل فبركة لقاء مع أحد أبنائهم، ليتحدث نيابة عن شعبٍ كامل، مدعياً الاتفاق مع ما جاءت به الحكومة من حلول. تحدث القيادي في حركة كتالا النوبية، أسامة فاروق، بعد انقلاب 3 يوليو العسكري، وذكر أنّهم لم يطالبوا بالانفصال عن الدولة، وإنّما عن جماعة الإخوان المسلمين. وزاد إعلام الانقلاب بقوله إنّهم ليسوا ضد مصر، وإنما ضد التفرقة بين نوبيي الشمال والجنوب، بل رمى باللائمة على الزعيم محمد نجيب في قبره بأنّهم قبله كانت بلادهم مصر والسودان، ومطلبهم الآن أن تعود النوبة، وتشمل أراضيهم شمال الوادي وجنوبه.
الغريب في هذه التمثيلية أنّ كلا الطرفين، بالإضافة إلى جمهور المشاهدين من أهل النوبة وغيرهم، يعرفون حقيقة الأزمة. لم يكفّ الإعلام عن اختلاق مثل هذه القصص، إلّا بعد أن ظهرت أصوات نوبية أخرى من المَهاجر، معترضة على تمييع مطالب شعبهم، وتبخّر أملهم في العودة بإصدار الرئيس السيسي القرار الجمهوري رقم 444 في ديسمبر/ كانون الأول 2014. قضى هذا القرار بإخضاع جزء كبير من أراضي النوبة، ضمن بعض المناطق الحدودية لإدارة (وسيطرة) القوات المسلحة، وجعلها منطقة عسكرية غير مسموح بوجود السكان فيها. وهنا، لم يكن من أبناء النوبة الحقيقيين إلّا أن رفعوا دعوى قضائية للطعن في القرار الجمهوري والمطالبة بالحكم الذاتي.
الإضاءة الأخرى على هذه القضية أنّ المكون لقومية النوبة يمتد من شمال السودان إلى جنوب مصر. ويعتبر نوبة السودان المكون الأكبر مساحةً والأكثر عدداً لبلاد النوبة في وادي النيل. وإن استطاع نوبة السودان التواؤم قليلاً مع بقية السودان، فإنّ نوبة مصر لم يستطيعوا. وعلى الرغم من تهميش النوبة في البلدين، إلّا أنّ النزعة الانفصالية عند النوبة في مصر تبدو أعلى صوتاً من مطالبات النوبة في السودان الذين تخمد عندهم هذه النزعة، لعدة أسباب. أولها أنّ نوبة السودان، بحكم سعة إقليمهم وبعدهم عن المركز وانعزالهم النسبي، ما زالوا يحافظون على هويتهم ولغتهم النوبية وتقاليدهم، ولم يتم فرض أي من وسائل طمس الهوية، كما حدث مع
النوبة في مصر. وهناك قصور الظلّ الإداري لحكومة الخرطوم عن تغطية ما يحدث في منطقة النوبة، أو الانتباه إلى المنطقة سلباً أو إيجاباً، فالحكومة غير منشغلة بما يحدث في الشمال، لتركيزها على مناطق النزاعات المتعددة في دارفور ومنطقة جنوب كردفان أو الجنوب الجديد للسودان. كما تُضفي طبيعة تعقيد الشخصية السودانية بعداً آخر، يتمثل في عدم الرغبة في الاحتجاج حالياً. ولو أرادوا ذلك، فالسودان بلد اختبر النزعات الانفصالية، الناجحة منها والفاشلة، بالإضافة إلى أنّ ثقافة التسامح التي كانت تميزه بلداً متعدّد الأعراق والألسنة والألوان، بدأت تتلاشى بفرض ثقافة ركّزت على السودان الأوسط الذي تم اختصاره في المثلث الذي يضم ولاية الجزيرة، امتداداً إلى مقرن النيلين، حيث الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان.
يشكو نوبة السودان من التهميش أيضاً. ولكن، ضمن قوميات مهمشة هي الأخرى، في بلد فسيفساء متعدّد الأعراق واللغات والقبائل، الموزّعة على كل جغرافيا البلد، أغلبها غير عربية مثل غرب السودان، وجنوب السودان الذي انفصل حديثاً وخلَفه الجنوب الجديد الذي يتكون أيضاً من قبائل زنجية، ثم شرق السودان الذي يتكون أيضاً من قبائل غير عربية. تبقّى الوسط، وهو قلب التمركز العربي، والذي أثار كثيراً من ملاسنات المركز والهامش ونقاشاتهما، فقد حرّكت الصراع السياسي الدائر ومعظم حروب السودان، فكرة المركز العربي المسلم المسيطر على الهامش المتنّوع.
ما زال حلم العودة إلى تخوم بحيرة النوبة وضفاف النيل في مصر والسودان يداعب خيال أعرق قومية في وداي النيل. وإن بدا الحلم السوداني خامداً، فإنّ عوامل الاستفزاز المتمثلة في قرارات الرئيس السيسي كفيلة ببعث المصري من تحت الرماد.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.