القدس العربية والخديعة الكبرى

القدس العربية والخديعة الكبرى

21 ديسمبر 2017
+ الخط -
يوم السادس من ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، وفي مشهد مسرحي تم إخراجه بعناية شديدة، دخل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وخلفه نائبه مايك بينس، إلى إحدى قاعات البيت الأبيض، ووقف ليقول، في صلفٍ وخيلاء، إنه قرّر أن يتخذ القرار الذي تأخر كثيراً، وتقاعس أسلافه من الرؤساء الأميركيين عن اتخاذه نصف قرن، وهو الاعتراف بأن مدينة القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل، وإنه أصدر تعليماته إلى وزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات الفورية لنقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدسة، وإنه اتخذ القرار وفاءً لما تعهد به في أثناء حملته الانتخابية. ثم جلس إلى منضدة صغيرة ووقع على نص قراره، في وثيقة مكتوبة، ثم رفعها في مواجهة الكاميرا في حركة تمثيلية، وكأنه يقول في تحدٍّ سافر: ها أنا ذَا قد اتخذت القرار الذي لن يرضيكم.. ولتركبوا أعلى ما في خيولكم.
ليس الحديث هنا عن ردود الفعل من الحكام العرب، ولا عن ردود الفعل الهزيلة من الشعوب العربية المقهورة، والشعوب الإسلامية المُغيبة، ولا عن مؤتمر قمة دول منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول بناء على دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان، ولم يحضره من قادة الدول السبعة والخمسين أعضاء المؤتمر سوى ستة عشر، وتغيب قادة دول عربية رئيسية ومحورية. عقد المؤتمر وانفض ببيان بلاغي عن رفض قرار ترامب، من دون أي إجراءاتٍ عملية، ولا حتى عن ردود الفعل البروتوكولية من بعض حكام أوروبا على استحياء، ولا عن مشروع القرار الذي تقدمت به مصر نيابة عن المجموعة العربية إلى مجلس الأمن، والذي انتهى كما كان معروفاً، وكالعادة بڤيتو أميركي. وليس الحديث هنا عن الألم الذي يعتصر أفئدة أجيالٍ حاربت من أجل تلك المدينة المقدسة، فكل ذلك لن يحرّر القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني. وسيهدأ رويداً رويداً، وسيذهب كل إلى حال سبيله، وربما سيشغلهم الاستعداد لمتابعة مباريات مونديال روسيا لكرة القدم 2018. وإنما هنا تناول للأمر من زاوية أخرى، وهي كيف عشنا وعاشت أجيال متتابعة، سبعين عاماً، ونحن نعتقد أننا نسير في الطريق
الصحيح إلى تحرير فلسطين، واستعادة بيت المقدس من براثن الصهيونية العالمية. كيف لم نُدرك طوال تلك المسيرة الممتدة أننا نسير في الطريق الخاطئ، مخدوعين بشعارات جوفاء، يُطلقها الزعماء؟
بدأت الخديعة مبكراً، عندما رفض العرب في 1947 قرار الأمم المتحدة رقم 181، بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وبقاء القدس مدينة موحدة لها وضع دولي خاص. قيل للشعوب العربية، وقتها، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مجموعة من العصابات الصهيونية، سيتم القضاء عليها. وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين في الرابع عشر من مايو/ أيار 1948. وأعلن ممثل الوكالة اليهودية في فلسطين، بن غوريون، فورا، قيام الكيان الصهيوني باسم دولة إسرائيل، وبادرت القوى العظمى، أميركا والاتحاد السوڤييتي، للاعتراف بها بعد دقائق من ذلك الإعلان، جاء رد الفعل العربي مطمئنا بأنه لاحت لحظة الخلاص من تلك العصابات الصهيونية، أعلنه ملك مصر فاروق وأمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين. وكانت حرب فلسطين الأولى، أو حرب 1948، والتي مثلت الخديعة الأولى للشعوب العربية، فلم يكن الهدف الرئيسي من الحرب تحرير فلسطين، والحفاظ على بيت المقدس موحّداً، بل كانت هناك أهداف خفية، فقد كان فاروق يطمع في أن يكون أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين، بينما كان عبد الله بن الحسين يهدف إلى توسيع ملكه، بضم الضفة الغربية لنهر الأردن، وفرض الوصاية الهاشمية على الشطر الشرقي من القدس الشريف الذي يضم المسجد الأقصى، عوضاً عن إمارة مكة والحرمين الشريفين التي فقدها والده الشريف حسين، وآلت إلى الملك عبد العزيز آل سعود. وانتهت حرب 1948 بالنكبة، بعد أن أُريقت الدماء العربية، وتمكّن "العصابات الصهيونية" من تثبيت الكيان الصهيوني والدولة العبرية على أكثر مما حدّده قرار التقسيم، واستولت على الشطر الغربي من بيت المقدس، والذي يضم حائط البراق. وأكثر من ذلك أجبرت دول الطوق التي حاربتها (مصر وسورية والأردن)، والتي لم تحاربها (لبنان) على الاعتراف الضمني بها من خلال توقيعها اتفاقيات الهدنة معها.
على الجانب العربي، تمكّن عبد الله بن الحسين من تحقيق هدفه، ضم الضفة الغربية إلى مملكته، وفرض الوصاية الهاشمية على الشطر الشرقي من القدس، والمسجد الأقصى، بعد أن أفشل خطة فاروق في إقامة دولة فلسطين عبر حكومة عموم فلسطين، التي أعلنها من غزّة برئاسة أحمد حلمي باشا. وفقد فاروق عرشه، وانتهى حكم أسرته في مصر على يد حركة الضباط الأحرار التي اتخذت من هزيمة 1948 واحدة من ذرائعها لقيام "الحركة المباركة".
تتابعت الأحداث التاريخية، وتوالى على حكم الشعوب العربية ملوك ورؤساء، اتخذوا من قضية فلسطين والقدس ستاراً لشرعية زعامتهم، بدءاً من عبد الناصر في مصر إلى صدام حسين في العراق، ومن الملك حسين في الأردن إلى الملك فيصل في السعودية والملك محمد الخامس في المغرب، يرفعون الشعارات الرنانة، ويطلقون التهديدات، ويتوعدون العدو الصهيوني بالثبور، وعظائم الأمور.
لم يكن ذلك كله سوى سلسلة من الخدع المتوالية التي تعرّضت لها الشعوب العربية على يد "أصحاب الجلالة، والفخامة، والسمو" الملوك والرؤساء والزعماء، فقد حشد جمال عبد الناصر جيوشه، لكنه وجهها إلى اليمن السعيد في حربٍ عبثية على مدى ست سنوات، انتهت بنكسة يونيو/ حزيران 1967، حيث احتلت جيوش العصابات الصهيونية كامل أرض فلسطين التاريخية، بما فيها القدس الشرقية، وأعادت توحيد بيت المقدس تحت سيطرتها. وأضافت إلى ذلك هضبة الجولان السورية التي لا تزال محتلة، وشبه جزيرة سيناء التي تم تحريرها في الحرب، والمفاوضات، واتفاقيات السلام مع العدو الإسرائيلي.
على الرغم من ذلك، بقي صوت زعيم يصرخ بتحرير فلسطين ستاراً لشرعيته، وهو صدام حسين في العراق، وجيّش الجيوش، وحشد الأمة وراءه، وإذا به يوجه جيوشه إلى حربٍ عبثية جديدة ضد إيران استمرت قرابة ثماني سنوات، وانتهت بلا نصر، ولا هزيمة. لم يكتف بذلك، بل استدار بجيوشه الجرّارة، ليس صوب القدس، ولكن لاحتلال دولة عربية مجاورة له هي الكويت، وانشغل العالم العربي بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، بدلا من تحرير فلسطين والقدس الشريف.
تهافتت الزعامات والقيادات العربية بعد ذلك. عقدت القيادة الفلسطينية اتفاقيات أوسلو، واعترفت بدولة إسرائيل، وعقد الأردن اتفاقية سلام، واعترف بدولة إسرائيل في مقابل إشراف رمزي على المسجد الأقصى، ثم جاءت ما تسمى مبادرة السلام العربية، لتطرح الاعتراف
العربي العام بدولة العدو الإسرائيلي في مقابل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في العام 1967.
تلك هي مسيرة الخدعة الكبرى التي تعرّضت لها الشعوب العربية، على يد السادة القادة والزعماء، فلا فلسطين تحرّرت، ولا القدس عادت كاملة، ولا حتى شطرها الشرقي في المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
يبقى على الشعوب العربية أن تُدرك أن قرار ترامب الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة العدو الإسرائيلي، ونقل سفارة أميركا إليها، لم يأت من فراغ، ولم يكن قراراً منشئاً لوضع جديد، ولكنه كان قراراً كاشفاً مسيرة طويلة امتدت سبعين عاماً من خداع الشعوب العربية، والتي عليها أن تفيق، وتدرك أن الخلاص هو في استعادة إرادتها، لتكون السيادة للشعوب، حتى تضع حداً لتلك الخديعة الكبرى.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.