عن استعصاء التغيير في الجزائر

عن استعصاء التغيير في الجزائر

21 نوفمبر 2017
+ الخط -
تترجم تصريحات الأمين العام لحزب جبهة التحرير الجزائرية (والموالاة عموماً)، جمال ولد عباس، بشأن الأوضاع السياسية للبلاد، تكريسا لوضعٍ تستحيل فيه فرص الوصول إلى الديمقراطية، ما يستدعي تحليلاً عميقاً قصد فهم منهجية الحكم ونجاعة الدعوة إلى الانتخابات، إذا كانت القرارات متّخذة لإبقاء دار لقمان على حالها إلى إشعار، قدّره الأمين العام نفسه، بقرن من الزمان أو أزيد.
إلى هنا، الكلام عادي، من حزب يحكم الجزائر منذ الاستقلال، ومن موالاةٍ تكاد لا تخرج عن الخطاب نفسه قيد أنملة. ولكن ما ليس عادياً هو أن تقرّر السلطة، منذ سنتين، دعوة شخصيات وطنية، أحزاباً وجمعيات، إلى تعديل الدستور، قصد إدخال جرعاتٍ من التغيير، لتأتي هذه التصريحات لاغيةً كل ما قيل وكل ما احتواه ذلك الدستور، وكأنه الإجابة الوحيدة على حالة انسداد الأفق السياسي، ودخول البلاد نفق الأزمة الاقتصادية إلى أجلٍ تقرّر مسار نهايته ارتفاع أسعار النفط من جديد.
على الرغم من رسائل المجتمع المدني الكثيرة، ومن الشعب عموما، ردا على هذا الخطاب، إلا أن السلطة لا تكاد تلقي لذلك بالا بسلوكات تفعّل، بواسطتها، خطابا تيئيسيا، ومثبّطا أي جهد لتغيير الواقع وتمرير مشروع تشخيص الأخطاء ثم معالجتها، ووضع البلاد على سكّة التطور بمقدرات وكفاءاتٍ موجودة، لكنها مقصاة، مغيّبة، بل ومهجّرة، قصرا وقصدا.
ولفهم تلك الرسائل، تحسن الإشارة إلى جملة الاعتراضات التي يشملها خطاب المعارضة، المجتمع المدني والفعاليات المجتمعية، ردّات فعل منها على خطاب/ سلوكات السلطة لإلغاء وجود تلك الفئات التي، إذا علا صوتها، في منطق السلطة، فإن ثمة خطرا على وجود الدولة نفسها، وهو ما عبّر عنه الوزير الأول، أحمد أويحيى، في حملته الانتخابية الحالية للانتخابات المحلية، والتي تجري بعد غد (23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017)، عندما قال إن "المعارضة تريد الوصول إلى الحكم..."، وكأنّ المعارضة لم توجد، في عرف سلطات البلاد، إلا لمباركة "برنامج رئيس الجمهورية"، كما تفعل أحزاب كثيرة في الموالاة، وفي مقدمتها الحزب الحاكم (جبهة التحرير).

بداية، تعترض المعارضة في الجزائر على منظومة الحكم من ناحية الشرعية التي ما فتئت تنتهك بها السلطة حرية اختيار ممثلي الشعب في البرلمان، بل واختيار الحاكم الفعلي للبلاد (منصب الرئيس)، حيث ما زالت تلك الشرعية تعتبر، في بلد 60% من أبنائها شباب، أن اكتساب صفة المجاهد (على أقل تقدير بسن يفوق، الآن، 70 سنة) للحصول على صك الترشح. إضافة، طبعا، إلى شروط تعجيزية في كل ترشّح لمناصب سياسية من الرئاسيات، البرلمان، وصولا إلى المحليات، من خلال وجوب الحصول على آلاف التوقيعات من العمداء (مسؤولون رفيعون في البلديات والمدن والمحافظات)، "ممثلي" الشعب في البرلمان، فضلا عن آلاف من المواطنين، موزّعين على عدة مناطق من البلاد.
تحمل الشرعية، في الجزائر، منذ الاستقلال، عدة عناوين، فهي، حينا، ثوريةٌ (بمرجعية ثورة التحرير الكبرى ضد فرنسا الاستعمارية)، وهي، أحيانا أخرى، دستوريةٌ، بمرجعية دساتير الجزائر، الأساسية والمعدّلة منها، والتي لم تفعّل ألبتة، لأن الترشّح والحصول على صك الانتخاب لمناصب الرئيس، البرلمان والعمداء في المحليات، إلا في فترة قصيرة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، على أيدي جبهة الإنقاذ المحظورة، كانت من نصيب من يوالي السلطة، أو يحمل صفة الشرعية التي ترضى عنها تلك السلطة. وتطالب المعارضة، بالنسبة لهذه الشرعية، بجعلها لصندوق الاقتراع وحده، من دون غيره من أدوات أو دوائر اختيار ثم ارتقاء المنتخبين، على كل المستويات. ذلك الاختيار الذي يضمنه، يرافع ويدافع عنه بمنظومة قانونية حقيقية، وقابلة للتفعيل لصالح المواطن، وحقه السيد في صنع التغيير.
تعترض المعارضة، في مقام آخر، على منظومة الحوكمة الاقتصادية من حيث إقرارها ريعية (الحوكمة) والعمل على تركها كذلك، ما تولّد عنها الفساد، الاعتماد على شراء السلم الاجتماعي وضمان عدم وجود التّمثيل الصّحيح، بسبب تعويض الضرائب باقتطاعات الريع النفطي.
طبع الريع منظومة الحكم في الجزائر، فأفشل عملية بناء الدولة، كما أفشل تحقيق النموذج الاقتصادي الكفيل بتجسيد النمو والتطور. وقد أدّى الريع إلى جمود في الاقتصاد تسييرا، استثمارا ونجاعة، إلى درجة أن الخبير الاقتصادي، عبد الرحمان مبتول، تحدّث في العام 2010، في دراسة له، وبصفة واضحة لا لبس فيها، "لم يتحرّك الاقتصاد الجزائري قيد أنملة من 1963 إلى عامنا هذا (2010)".
وقد لاحظ الجميع، منذ تولي أحمد أويحيى رئاسة الحكومة، انتشار سؤالٍ على وسائل الاتصال الاجتماعي: ماذا فعلتم بألف مليار دولار دخلت خزينة الدولة في فترة ارتفاع أسعار النفط، والتي دامت قرابة 14 سنة، وذلك في أعقاب تصريحات للوزير الأول (رئيس الحكومة)، قال فيها إن الخزينة فارغة، والأزمة الاقتصادية أعمق مما يمكن تصوّره، ولفترة طويلة نوعا ما؟ يثير السؤال مسألة في غاية الأهمية، غياب/ تغييب حوكمة عقلانية لكل المال الذي درّته المحروقات (النفط والغاز) على الجزائر عقودا، والتي كان يمكن أن تشكل القاعدة لبناء نموذج اقتصادي ناجع، يوفر الجدار المنيع ضد تقلبات الأسعار في الأسواق العالمية. وقد انبرى سياسيون مقرّبون من السلطة للإجابة عن السؤال أن تلك الأموال صرفت على البنية التحتية، في مشاريع ذات طبيعة اجتماعية، إضافة إلى تحمّل الدولة أعباء التدعيم للمواد الأساسية لصالح أصحاب المداخيل الضعيفة من المواطنين. ورد خبراء اقتصاديون على هذا الجواب بأن ثمة جانبا من الحقيقة في ما قيل بشأن تلك المصاريف، إلا أن حجم الفساد، المشاريع التي ضاعفت مرّات ومرّات من ميزانيتها من دون نجاعة مؤكّدة، إضافة إلى إرادة الإبقاء على الأمور كما هي، وخصوصا في جانب شراء السلم الاجتماعي، يبقى محل تساؤل من الجزائريين بشأن تلك الأموال، لأنها لم تق الجزائر شرور الأزمنة الصعبة، فترات تقلبات الأسعار لتكون الانعكاسات على المواطن، من حيث ارتفاع الضرائب، ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانتشار البطالة وتداعياتها، ومنها جيوش الشباب الهارب في قوارب الموت إلى الضفة الأخرى للمتوسط، عميقة وأليمة.

أما الاعتراض الأبرز من المعارضة على السلطة، فله صلة بمبدأ تجديد النخب/ دوران النخب، والذي كان، للمفارقة، أول من فتح أفق تجسيده الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب له، عام 2005، من مدن داخلية في الجزائر، بمقولته المعروفة "طاب جناننا"، أي كبرنا وكبرنا كثيرا على البقاء في السلطة، وعلينا تسليم مشعلها للشباب، أو للأجيال اللاحقة.
تنتشر على صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي أخبار التعيينات "الفوقية" ومؤشرات المحاباة في الوصول إلى المناصب العليا، في قلب ممارسة السلطة وهامشها، وعلى مستوى مختلف مواقع القرار، السياسية منها والاقتصادية. ويدلّ هذا على أن عملية دوران/ تجديد النخب مجرد أمنياتٍ لا يمكن تجسيدها على أرض الواقع، بسبب الخوف الذي يعتري السلطة من احتمال تضييعها (ولمحيطها من أبناء، أصهار وحاشية) لقسط من تلك السلطة التي قد تشكل، بعد أعوام، مدخلا للمنافسة، الإزاحة أو المحاسبة من خلال مبدأ: من أين لك هذا؟ كيف اكتسبت السلطة وفيم استخدمتها؟ يعتبر السؤالان من أصعب المواقف التي لا يمكن للنظام في الجزائر أن يدع مجالا للتفكير، فضلا أن يفتح باباً لجعله مسارا للتجسيد، وهو ما أدى به (النظام) إلى غلق كل بابٍ، يؤدي احتمالا إلى ذلك، وأقصر طرق الوصول إلى ذلك هو دوران/ تجديد النخب. ولهذا رفض هذا المبدأ منذ الاستقلال، لتنتج عن ذلك دائرة قرارية ضيقة بدون آفاق للانفتاح، التغيير أو الانتقال نحو الديمقراطية.
يلاحظ على الإشكالات الثلاثة أنها هيكلية، وليست ظرفية أو جانبية، وأنها من الجانبين (موالاة ومعارضة) مطالب/ اعتراضات، أو مبادئ/ أسس الحفاظ على النظام، ولا تقبل المفاوضة، المساومة، أو حتى احتمال أن تتغير، لأنها، من جانب الموالاة، سبيل البقاء في الحكم وتجنب إشكالية الإزاحة من قلب النظام ومحيطه، كما أنها، من جانب المعارضة، برنامج أو خريطة طريق مبدئية، دونها بقاء الحال على ما هو عليه، وإلى الأبد، أو قرن، كما قدّره أمين عام الحزب الحاكم.
هل يمكن الاستعاضة عن تلك المطالب بمطالب أخرى؟ وهل يمكن للنظام أن يفتح فضاءً للنقاش بشأن تلك الاعتراضات، في المستقبل المنظور؟ هذا ما ينتظره الجميع، في أفق 2019، موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو رهان المعارضة لإدخال جرعات التغيير التي يطالب بها منذ 1962. .. قد تؤدي الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى لجوء النظام إلى بديل عن الريع منهجية لإدارة الآلة الاقتصادية، وهو ما سيفتح الباب، واسعا، أمام معالجة إشكالية الشرعية من ناحية، وإعادة النظر في مبدأ دوران/ تجديد النخب. وإن غدًا لناظره لقريب.

دلالات