تونس بين عامين

تونس بين عامين

07 يناير 2017

محاومون تونسيون يتظاهرون ضد الضرائب عليهم في العاصمة (6/12/2016/الأناضول)

+ الخط -
ودّعت تونس سنة 2016 بجدلٍ واسع بشأن العائدين من بؤر التوتر وآليات التعامل معهم قانونياً وأمنياً، واستقبلت العام الجديد 2017 باحتجاجات شعبية مطلبية في سيدي بوزيد والقصرين ومدنين، وغيرها من المحافظات الداخلية التي ما فتئت تعاني التهميش، ولم تلق بعد حظّها من التنمية، وهو ما يخبر بأنّ مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد ما انفكّ يواجه صعوبات وتحدّيات. ومع ذلك، يتبيّن الناظر في حصاد السنة المنقضية أنّ تونس حقّقت منجزات مهمّة، على الرغم مما شهدته من ركودٍ اقتصادي، ومن تجاذبٍ مستمرّ بين الطرف النقابي/ الاجتماعي والطرف الحكومي. ويمكن واقعياً الوقوف عند ثلاث محطات بارزة جسّدت، في العام الفارط، حرص التونسيين على المحافظة على التجربة الديمقراطية الوليدة، وتمسّكهم بعرى الوحدة الوطنية، وتوقهم إلى رفد حركة التغيير نحو الأفضل. فمن الناحية الحقوقية، يعتبر انطلاق مشروع العدالة الانتقالية انتصاراً للثورة، وإعمالاً لثقافة حقوق الإنسان، ولمطلب تحكيم القانون وكشف الحقيقة، ويُعدّ تحوّلاً نوعياً في سيرة التعامل بين الحاكم والمحكوم، وفي مسار العلاقة بين أجهزة الدولة الزجرية والمواطن، فقد كشفت جلسات الاستماع إلى ضحايا الاستبداد التي عقدتها هيئة الحقيقة والكرامة حجم الظلم المنهجي الذي كانت تمارسه الدولة القامعة زمن الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي على طيفٍ واسعٍ من المواطنين على خلفية نشاطهم الحقوقي أو السياسي أو النقابي. وأخبرت بما كان يعيشه تونسيون كثيرون من إقصاء وتهميش وهرسلة، بسبب خروجهم عن سمت النظام الحاكم. وبدا من خلال تلك الجلسات حجم التزييف الرسمي للتاريخ، وحجم المغالطات التي كانت تروّجها الأجهزة الإعلامية لتلميع صورة الدكتاتورية، وتشويه صورة سجناء الرأي في المخيال الجمعي. لذلك، كانت انطلاقة العدالة الانتقالية، على الرغم مما واجهته من عراقيل ذاتية وموضوعية، فرصةً لإعادة كتابة التاريخ ونقد الذات، وردّ الاعتبار لضحايا الانتهاكات، وجبر الضرر اللاحق بهم مادياً ومعنوياً، عسى أن تندمل جراحهم، ويتسنّى لهم استئناف حياتهم، والاندماج من جديد في النسيج المجتمعي.
ويعتبر نجاح القوات المسلّحة، وفي مقدّمتها الجيش التونسي، في التصدّي لغزوة تنظيم الدولة
الإسلامية على مدينة بنقردان المتاخمة للحدود الليبية (7 مارس/ آذار2016) منجزاً دفاعياً مهمّاً جسّد حالة من التلاحم بين المؤسسة العسكرية والمدنيين في مواجهة الخطر الإرهابي. فقد مثلت معركة بنقردان جدار صدّ ضدّ تمدّد "داعش" في المنطقة، وحالت دون مساعي التنظيم إلى إقامة إمارةٍ في الداخل التونسي. وكان لالتفاف المواطنين حول الجيش الدور الأساسي في إفشال مخطط "داعش" وإرباك جهوده للسيطرة على المدينة، فتكبّد خسائر فادحة في العتاد والعدد. وانفضّ الناس من حوله، معبّرين عن تضامنهم مع القوات المسلّحة، وعن تمسّكهم بعرى الوحدة الوطنية. لكن كسب معركة بنقردان لا يعني نهاية الحرب على الإرهاب التي تبقى طويلة، وتقتضي من الجهات المسؤولة خلال السنة الجديدة وما بعدها تطوير وسائل الاستخبار، وتقنيات الاستباق، وأدوات مراقبة الحدود، وبلورة مقارباتٍ شاملةً لمعالجة معضلة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، مثّل انعقاد المؤتمر الدولي لدعم الاقتصاد والاستثمار "تونس2020" علامة بارزة في سيرورة الاقتصاد التونسي بعد الثورة، لما شهده من حضور مكثّف لرجال الأعمال وصنّاع القرار، وممثّلي الجهات المانحة عربياً ودولياً، ولما بعثه من رسائل إيجابية، في مقدّمتها تعزيز حضور تونس في مجتمع المال والأعمال، وطمأنة المستثمرين وتشجيعهم على بعث مشاريع في بلد عربي، نجح إلى حدّ كبير في تجنّب استتباعات الثورة المضادّة، وبلغ مرحلةً معتبرةً في مأسسة الانتقال الديمقراطي، وترسيخ قواعد التداول السلمي على السلطة، ويتّجه عمليّا، خلال سنة 2017 وما بعدها، إلى كسب معركة الانتقال الاقتصادي التي تقتضي تحويل مخرجات مؤتمر الاستثمار إلى منجزاتٍ واقعية، وتنويع مسالك التنمية والحوكمة لتحقيق الانتقال الاقتصادي المنشود.
ومع أهمية ما تحقّق، أخفقت الدولة في التمكين للشباب الذي ظلّ على هامش اهتمام أصحاب القرار ومكونات المجتمع المدني، ولم يجد بعد حظه من الإحاطة والإدماج، حتّى أنّ البطالة في صفوفه متفاقمة، وجهود تأطيره محدودة، وثقته في الطبقة السياسية متدنّية. والحاجة أكيدة مستقبلا لبلورة إستراتيجيةٍ وطنيةٍ لتفعيل دور الشباب في الشأن العام، وتأهيله للنشاط في الفضاءين الأهلي والمهني، حتى لا يقع في التطرف أو الانحراف، أو يتجه قبلة قوارب الموت وبؤر التوتر. ومن المفيد الإشارة أيضاً إلى أنّ حكومات ما بعد الثورة لم تنجح في تحقيق تنميةٍ جهويةٍ عادلة وشاملة، ولم تفكّ العزلة عن مناطق الظل التي مازالت تفتقر إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم، وتتطلّع إلى غد أفصل.
ويأمل معظم التونسيين، في مطالع السنة الجديدة، أن يتوقف الارتفاع الجنوني للأسعار، وأن تتحسّن المقدرة الشرائية للمواطن، وأن يلتفت الحُكّام الجدد إلى الفئات محدودة الدخل والمناطق المهمّشة، وأن يكفّ السياسيون عن الجدل السفسطائي وخطاب الإقصاء والإقصاء المضاد، ويقدموا، بدل ذلك، مقترحات عملية/ موضوعية للحدّ من البطالة ولمكافحة الفساد والفقر، وللتوقي من الغلوّ والإرهاب، ولمناهضة الإفلات من العقاب والإثراء غير الشرعي، وهي معضلات قديمة/ جديدة ما فتئت تؤرّق الاجتماع التونسي، وأحرى بالمتنافسين أن يتنافسوا في حلّها مع إطلالة العام الجديد.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.