ثورات 2011.. وضوح أكبر وتحديات جديدة

ثورات 2011.. وضوح أكبر وتحديات جديدة

26 يناير 2017
+ الخط -
لا أحد يُنْكِر أن مرور ست سنوات على الانفجارات التي تلاحقت في مجتمعات عربية عديدة، مشرقاً ومغرباً، صنعت منعطفاً مهماً في تاريخ تطلع المجتمعات العربية إلى الانعتاق والتحرّر. وإذا كان مؤكداً أن معطياتٍ عديدةً لم تكن متوقَّعة عند انطلاق الثورات، حصلت في قلبها وواكبت تداعياتها، وأن خراباً كبيراً لحق المجتمعات التي انخرطت ساعيةً للظَّفَر بمكاسب الحرية والتحرُّر. إلا أن كل ما حصل لا يمكن فصله عن السياق العام للتحوُّلات التي اندلعت في المجتمعات العربية.
تبرز قراءة متأنية لكل ما حدث في مجتمعاتنا سنة 2011، في سياقاته التاريخية المركّبة، أن المكاسب المنتظرة من الفعل المذكور، في المديين المتوسط والطويل، تَفُوقُ مواويل الحنين والعويل التي ما فتئ بعضهم يردّدها، بين حين وآخر، وبلغات عديدة، ليعلن أن ما كان أفضلَ من هذا الذي يَحْصُلُ اليوم.
يمكن أن نواصل الارتباط بمآثر الحركية السياسية التي أثمرت سقوطَ أنظمةٍ وحكَّامٍ وقادة، كما يمكن أن نواصل التفكير والعمل لمواجهة التداعيات المترتبة عن أفعال الانفجار، وما نَتَجَ عنها من أحداثٍ ساهمت وتساهم، كما يعرف الجميع، في حصول تراجعاتٍ أعادتنا إلى أنماطٍ من الفعل، لا علاقة لها بخيارات الفعل الثوري وطموحاته، كما ساهمت في إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في سياق مسلسل التحوُّل البطيء. تتطلب حوادث التاريخ في أزمنة التحوُّلِ العاصفةِ، من قَبِيل ما عرفناه في السنوات القليلة الماضية، أشكالاً من المعاينة والفهم، تختلف عن الأنماط المعهودة، في التعامل مع وقائع الزمن التاريخي في جريانه المعتاد.
يمكن أن يُشار هنا إلى أن التداعيات المتواصلة لمختلف جوانب الحراك الثوري تساهم، بطريقةٍ
 أو بأخرى، في إبراز أبعادٍ جديدة للأفعال والمواقف المرتبطة بترحيل حكَّامٍ وإسقاطهم، وتهجيرِ شعوبٍ وبيعِ أوطان. ولأن جوانب معينة من الحدث الثوري ازدادت اليوم وضوحاً، مقارنة مع زمن اندلاعها، فذلك يدفعنا إلى مغادرة حصون المؤامرة، والتدبير المسبق لكل ما حصل. ويدفعنا، في الوقت نفسه، إلى التوقُّف عن قياس فعل انفجاراتنا ومفعوله على نماذج أخرى من الفعل الثوري، حصلت قبل حصول ثوراتنا، لنصبح أكثر قرباً من الديناميات السياسية والاجتماعية المتفاعلة اليوم في أغلب المجتمعات العربية.
أصبح الملاحظ المتابع لانفجارات 2011 يمتلك اليوم وضوحاً أكبر لنوعية الصراع الحاصل، قبل الثورات وفي أثنائها وما تلاها من أحداث في مجتمعاتنا العربية، فهو يعرف اليوم علاقة جوانب عديدة من الثورات، ومسارها التاريخي العام، حيث لا يمكن الفصل بين شعارات الثورات وتطلُّعات الشباب الذين كانوا يتغنَّوْن بها في حلقاتٍ ومجموعات، ويعملون على تمثُّل روحها على صفحات الوسائط الاجتماعية. لا يمكن الفصل بين ذلك كله ومختلف خيارات الإصلاح السياسي التي حملتها أجيالٌ من التيارات السياسية، في العقود الأخيرة من القرن الماضي. كما لا يمكن الفصل بين حلم النهضة والتقدُّم ومغالبة الاستبداد، وقد شَكَّل لحظة مركزية في فكر النهضويين العرب.
بؤس ما يجري، اليوم، في سورية وليبيا، ومظاهر أخرى كثيرة في العراق واليمن، يضعنا أمام تحدياتٍ جديدةٍ وأسئلةٍ جديدة. وقد يدعونا، اليوم وغداً، إلى التفكير في خياراتٍ أخرى تسعف أكثر بتخليصنا من جحيم الخراب المتواصل، لنتمكَّن من تخطي حالات الانسداد في الفعل الثوري وتجاوزها.
نتطلع اليوم إلى تركيب مواقف وخيارات تجعلنا نواصل، بحماسٍ جديد، إتمام أفعال التغيير التي رسمت الثورات العربية جدول أعمالها، بوفاءٍ كثير لقيم التاريخ وتضحيات الشعوب العربية.
لا ينبغي أن يدفعنا عناد أنظمةٍ تحتقر شعوبها إلى نسيان النجاحات النسبية للثورات العربية،
 نجاحها في إطاحة حكامٍ وأنظمةٍ وممارساتٍ، كما لا ينبغي أن ينسينا أدوار الفعل الثوري، وما تلاه من وقائع وأحداث، في كشف كثيرٍ من أوجه مجتمعنا. وفي الموقفين معاً، يجب أن نحرص على الانتباه إلى أخطائنا وعثراتنا، وتشابك الفعل الثوري وتعقده في حاضرنا، فقد نتبيَّن، قريباً وبوضوح أيضاً، ما يساعدنا على مواجهةٍ أمْضَى مع قوى الاستبداد المهيمنة على مجتمعاتنا.
لا نشك لحظةً في خطورة الحروب المتواصلة في مجتمعاتنا، ذلك أن صور التطرُّف والعنف، واتِّساع مجال العمل بالنعرات الطائفية، وكذا انتشار شعارات الانكفاء والتراجع نحو كل ما هو تقليدي في تراثنا، يؤشر إلى نجاح تياراتٍ سياسيةٍ معينة في زحزحة الخيارات النبيلة للمشروع الذي حملته رياح الثورات العربي. ويمكننا مواجهة الممانعات الجديدة والقديمة بمزيدٍ من فهم مختلف أبعاد الصراعات والديناميات الجديدة، الناشئة في قلب ما يجري اليوم في مجتمعنا، حيث نتجه إلى بناء التصوُّرات والمواقف التي تجعلنا لا نتوقف عن تحصين الفعل الثوري في مختلف أبعاده.
لا نفصل الحدث الثوري العربي عن أفق المشروع الديمقراطي العربي، بكل سياقاته وشروطه، ولأن مرور ست سنواتٍ كاملة على حصوله، أنتجت، كما أصبح معروفاً، دينامياتٍ تُعَدُّ، في كثيرٍ من جوانبها، ضمن دائرة اللامتوقع، فإننا مطالبون اليوم بفك رموز السياقات الجديدة، المؤطرة ما يجري، اليوم، من أحداثٍ، بهدف إعداد الْعدَّة المناسبة لمواجهتها، والحدِّ من الخسائر الناجمة عنها.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".