من يوقف حرب إبادة الفلسطينيين؟

من يوقف حرب إبادة الفلسطينيين؟

15 فبراير 2024
+ الخط -

تجري منذ أشهر حرب إبادة الشعب الفلسطيني، مريرة تترجمها أفعال إجرامية يمارسها الكيان الصهيوني مع حلفائه، في سياق إتمام مخطّطات مرسومة ومُعْلنة تتوخّى استكمال عملية تهجير ثانية للشعب الفلسطيني من أرضه... يتضاعف عدد القتلى من المدنيين، كما يتضاعف عدد الجرحى والمصابين، رغم صعوبة ضبط أعداد المفقودين والفارّين من جحيم حرب انتقامية مجنونة وويلاتها، تساهم فيها الولايات المتحدة، وتسندها كثير من دول الغرب الأوروبي بحسابات استراتيجية وتاريخية متعدّدة.

تتواصل الحرب يومياً وبدون انقطاع، وقد تحوّلت مدن غزّة ومخيماتها نتيجة ما لحقها من ضرباتٍ برّية وبحرية وجوية، إلى أرض محروقة يملأها الخراب، ويغطّيها ركام المباني التي هُدِّمت أو أحرقت. ولأن العدوان الصهيوني الأميركي والغربي لم يكتف في الحرب الانتقامية القائمة بما ذكرنا، بل أضاف إليه وقف ضخ الماء وقطع الكهرباء والغاز وإغلاق الطرق والمنافذ، التي يمكن أن تساعد في عمليات مَدِّ المتضرّرين من المدنيين، ببعض المساعدة المرتبطة بالتغذية وبمواد التطبيب والعلاج. تحوّلت الحواضر الغزّية نتيجة للقصف المتواصل إلى فضاءات مهجورة، تملأها الأتربة والنفايات وبقايا الخراب الحاصل بفعل حربٍ لا يتردّد المشرفون على خلية تدبيرها في القول إنهم يتوخّون منها الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. فمن يُوقِف الحرب الدائرة منذ أشهر، بكل ما ألحقته من خرابٍ وقتلٍ وحرقٍ وجنونٍ بالفلسطينيين؟ من يملك القدرة على وقف جنون القوة، الذي يمارس به الكيان الصهيوني عدوانه متدرّعاً بآثار فعل المقاومة الفلسطينية الحاصل يوم 7 أكتوبر، ومتدرّعاً أيضاً بخططه الهادفة إلى إتمام مشروع صفقة القرن وترسيخ الملامح الجديدة للشرق الأوسط الجديد؟

لا تبدو في الأفق المرئي إمكانية مُؤكدة لوقف الحرب المتواصلة منذ أشهر، رغم الكوارث والمآسي والآلام التي ترتبت عنها في المجتمع الفلسطيني، وقد ازداد أسبوع هدنة تبادل الأسرى صعوبة، بفعل الشروط التي ترتبط به، والتَّعَنُّت الذي يُبديه الكيان الصهيوني تجاه مطالب المقاومة الفلسطينية. أما الحليف الأميركي فلا يتردّد، بين حين وآخر، في التلويح بإمكانية العودة إلى أحاديث السلام المقرونة بمشروع حلّ الدولتين، في الوقت الذي يَرفع فيه الكيان الصهيوني شعار اقتلاع وتهجير من تبقّوا من الفلسطينيين، بعد تعطيله بنود اتفاق المبادئ.

تحوّلت مدن غزّة ومخيماتها نتيجة ما لحقها من ضرباتٍ برّية وبحرية وجوية، إلى أرض محروقة يملأها الخراب، ويغطّيها ركام المباني التي هُدِّمت أو أحرقت

لا نتصوّر أن المظاهرات التي عمّت مدناً غربية وعربية كثيرة من أجل التنديد بالعدوان الصهيوني على غزّة، يمكن أن توقف الحرب اليوم، إنها تُعاين حصولها وتعلن مواقف في التنديد بآثارها، كما تُمَهِّدُ لبناء رأيٍ عامٍّ جديد، رَافِضٍ لها ولمخلفاتها. أما المنتظم الدولي ومؤسّساته، فإنه لم يعد قادراً، بحكم بنية تكوينه، على إصدار مواقف قادرة على زجر ومعاقبة جرائم الحرب، المشتعلة في فلسطين وفي جغرافيات أخرى من العالم. ونتائج الدعوة التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية المُعلنة، لم تُصْدِر من المحكمة أكثر من حكمٍ يدعو إلى جملةٍ من التدابير، التي لا تؤدّي لا إلى وقف ضربات القتل والهدم والحرق، أي مختلف مظاهر الحرب القائمة وتجليّاتها، وهي لن تؤدّي إلى حدود هذه اللحظة إلى ما ينقلها إلى الأفق الذي نتطلّع إليه، بعد أزيد من أربعة أشهر من الحرب.

يَدُلُّ جنون الحرب الانتقامية المتواصلة على الهزّة العنيفة التي أصابت الكيان الصهيوني، بفعل ومفعول عودة المقاومة مُجَسَّمَة في طوفان الأقصى، الجارِف لِحُزْمَة كبيرة من أوهام الصهيونية وأساطيرها، المسنودة اليوم بمزيدٍ من سياسات الضم والاستيطان والقتل والتهجير. فمن يستطيع اليوم وقف حرب إبادة الفلسطينيين؟ قبل الجواب، لِنُعايِن ما جرى خلال أشهر الحرب المشتعلة أمامنا، سنتبيّن أن الصمود الفلسطيني يمارس وقوفه الشامخ أمام جبروت الصهاينة وحلفائهم، رغم مختلف صوّر القتل وصوّر الخِذلان والخيانة التي يواجهون. ويعلّمنا صمودهم المتواصل دروساً كثيرة لم تعرفها حروبٌ أخرى مماثلة حصلت قبل حروبهم.. نتعلّم من صمودهم أن حرباً بين قِوى عظمى تسند الكيان الصهيوني وفصائل وطنية تحمل روح المقاومة الفلسطينية وعدالة قضيتها، وتواجه أعتى الأسلحة، يكون بإمكانها في سياق شروط مماثلة لما يؤطّر الحرب القائمة، أن تبني خياراتٍ ومواقف مُوَلِّدة لأَنماطٍ من الصمود غير متوقعة.. لكن كيف يمكن تحويل الصمود المتواصل اليوم إلى فعل تاريخي صانع لتحولات فعلية في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

مكوّنات الحركة الفلسطينية، بمختلف فصائلها، تدرك أن "طوفان الأقصى" فِعْلٌ في المقاومة، وهو من صنع تاريخ الوفاء للمشروع الوطني

تتطلّب عملية تطوير آلية الصمود إنجاز فعلين مُتَمِّمَين لما يجري في الحرب المتواصلة ضد فعل المقاومة وأفعال الصمود، يرتبط أولهما بالمحيط العربي، حيث لم يعد هناك مبرّر لمعاهدات التطبيع التي ربطت بعض الأنظمة العربية بالكيان الصهيوني، وفي الحرب المجنونة التي تمارسها اليوم في غزّة، ما يدفع إلى وقف علاقات هذه الأنظمة بدولة الكيان الصهيوني. أما المهمة الثانية التي نعتقد أنها ستوقِف الحرب، فتتمثل في وقف مسلسل الانقسام بين مختلف فصائل حركة التحرير الفلسطينية، فلم يعد هناك مُبَرِّر للخلافات التي أنتجت صور الجفاء والانقسام الحاصل بينها.

أتصوّر أن مكوّنات الحركة الفلسطينية، بمختلف فصائلها، تدرك اليوم أن "طوفان الأقصى" فِعْلٌ في المقاومة، وهو من صنع تاريخ الوفاء للمشروع الوطني الفلسطيني. إنه يستوعب في روحه الخطوات الأولى لميلاد حركة التحرير الفلسطينية في كثير من تجلياتها، كما يستوعب معطياتٍ عديدةً من الانتفاضات الفلسطينية، ومن مختلف صور الصمود التي مارستها أجيال فلسطينية طوال عقود القرن الماضي. نعرف الغليان الصامت في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفي مختلف المدن والقرى الفلسطينية، كما نعرف أن الشباب الصامد والمُقاوم في غزّة ينتمي إلى أفقٍ في النضال يخصّ كل الشباب الفلسطيني المتطلّع إلى الاستقلال والتحرير.. ولهذا السبب، نرى أن استكمال رسالة الصمود يتطلب وحدة العمل الوطني الفلسطيني، حيث يقف اليوم كل المؤمنين بالمشروع الوطني الفلسطيني مع المقاومة الجديدة التي أطلقها "طوفان الأقصى".

يحمل الشباب الرافع اليوم راية المقاومة والصمود سمات شباب المقاومة في التاريخ الفلسطيني المعاصر... وهو وحده القادر على وقف العدوان الصهيوني المتواصل، بفضل وحدة الصَّف المُقتَرِنة بوحدة المشروع الوطني الفلسطيني، ووحدة الفصائل المكوّنة للجسم الفلسطيني.. من أجل صمودٍ أقوى ومقاومةٍ تفتح أعينها مجدّداً على سياق تاريخي مختلف كثيراً عن بعض صور التحوّلات التي لحقت المشروع الوطني الفلسطيني في العقود الثلاثة الأخيرة.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".