هل تكفي منازلةٌ لكسر شوكة الاستبداد؟

هل تكفي منازلةٌ لكسر شوكة الاستبداد؟

24 ابريل 2014

من تعبيرات الربيع العربي في ليبيا (أرشيفية)

+ الخط -

لا نتصور معركة الإصلاح السياسي في العالم العربي، اليوم، من المعارك البسيطة. إنها معركة قائمة منذ ما يزيد عن قرنين. وإذا كان مفكرو المشروع الإصلاحي يختبرون، اليوم، الجيل الثالث من مفاهيم الإصلاح السياسي، فإن أنظمة الاستبداد، وخطابات الاستبداد، ما تزال، بدورها، تعاند وتمانع، متحصنةً بلغاتٍ أخرى، وذلك في إطار المقاومات الجارية، لإيقاف جذوة الانفجارات التي أطاحت رؤوس أَنظمةٍ عربية. ويكشف استمرار هيمنة الشرعيات السياسية القديمة ضرورة مواصلة الجهد النقدي في النظر والعمل، للتمكن من مغالبتها وتفكيكها، وذلك ببلورة العدة النظرية الحداثية، القادرة على تجاوزها، لتتمكن من انخراط أكثر إيجابيةً في الحاضر الكوني.


نتعلم من التاريخ أن التخلص من الأنظمة السياسية المستبدة لا يتم في منازلة تاريخية واحدة، أو اثنتين، إنه يتطلب نفساً أطول وأعمق، وذلك بالصورة التي تمكن من خلخلة أركانه وجدرانه. ضمن هذا الإطار، فكّرنا، ولا نزال نفكر، في تداعيات الثورات العربية.

ولم يتمكن خطاب النهضة العربية الإصلاحي من صياغة أسئلة التنظير السياسي، فقد كان مشدوداً إلى برامج الإصلاح، إلى شعاراته ودعاويه، ذات الصبغة السجالية الأيديولوجية والمستعجلة، بحكم ارتباطها بحركاتٍ فاعلةٍ في مجال الصراع التاريخي. فظلَّ يلهث وراء مستجدات الخطاب السياسي، من دون أن يتمكن من بناء مشروعٍ في النظر السياسي، يقطع مع خطابات شرعنة الاستبداد السائدة في تراثنا، كما يمارسها الفاعلون، ويتمثلها المنظرون المنافحون للسلطة وللإصلاح السياسي في الحاضر.

 


وستظل هذه المسألة، مسألة التنظير السياسي النقدي، الهادف إلى القطع مع اللغة السياسية العتيقة، ضمن أولويات جدول أعمالنا في الفكر السياسي العربي المعاصر، طال الزمان أم قصر. ذلك أنه لا يمكن القفز على أسئلة النظر السياسي بالاكتفاء بالعمل السياسي الصرف. والعفوية السياسية تعني التبعية العمياء، وهذه لا تنتج النظر الكاشف عن معالم الطريق، طريق إعادة بناء المشروع السياسي المطابق للتاريخ، والدولة الوطنية المعبرة عن الإرادات الجماعية، والتصورات الجماعية المستقاة من ينابيع الواقع، وممكنات التاريخ.


سجل أغلب الملاحظين على انفجارات 2011 غياب السند الثقافي للثورات التي اشتعلت في أغلب المجتمعات العربية، مما يكشف أن معاركنا السياسية في الراهن العربي مركبة، سواءً مع ذاتنا، أو مع الآخر أو الآخرين، بحكم الاختلال الزمني الحاصل بيننا وبينهم، بين تأخرنا التاريخي وطفراتهم في مضمار التقدم التاريخي، وعلى جميع الأصعدة والمستويات. المعركة المركبة، والنقد المركب، والأسئلة المركبة، طريقنا وخيارنا لكشف محدودية فكرنا، في مستويات متعددة، ومنها المجال السياسي.


لم يتح لنا قرنان من التفكير في سياسة الآخر، وفي نسخ قواعد وأصول دولته واستنباتها على أرضنا، وفي وسط جغرافيتنا، بكل صعوباتها القادمة من قلب التاريخ، تصفية حسابنا مع أشكال الاستبداد والتسلط، والتي لا تزال حية في خطاباتنا السياسية، وفي مؤسسات دولتنا. فهل نستطيع تجاوز هذه اللغة بحمولتها التقليدية، عن طريق صياغتنا لأسئلة النقد الراديكالية؟ أم ينبغي مواصلة مخاتلتها بالمواقف والأبنية النظرية التوفيقية؟ أم نعتبر، كما يرى بعضهم، أن انتعاش الإسلام السياسي، فيما يعرف بالمد الأصولي الجذري، يمكن أن يتيح لنا نقداً أعمق، يعيدنا إلى أصول القضايا، ليكون النقد بدوره جذرياً، ويتيح لنا اجتثاثاً أقوى لمشكلاتٍ، تختفي ثم تعود، لأننا لم نتمكن من مواجهتها بطريقةٍ تسمح لنا ببناء مرتكزات اللاعودة؟


وتسمح لنا هذه الأسئلة بفتح نقاش، يُمكِّننا من تخطي ما اعتبرناها محدودية في النظر السياسي الإسلامي، من أجل المساهمة في تجديد النظر السياسي العربي. ولعل مشروع نقد التراث، والذي تبلور منذ عقدين في فكرنا العربي المعاصر، يمكّننا من الاقتراب، أكثر فأكثر، من بؤر التراث الساخنة. ونحن، في هذا المستوى من النظر النقدي، لا نمارس إلا ما مورس قبلنا في أزمنة أخرى، وفي فضاءاتٍ فكريةٍ أخرى. وهذا سر استنادنا، في هذا التصور، على أرضية نظرية، تقر بواحدية التاريخ البشري، ولا ترى في الشأن الإسلامي، في تجلياته التراثية المختلفة، شأنا خارجاً عن نظام ما هو تاريخي، وما هو إنساني. وما يكون كذلك، تُصنَع وتُركَّبُ مشكلاته في التاريخ، وتجد حلولها، آجلاً أو عاجلاً، في قلب التاريخ.


لا يعني هذا أننا نفكر في إشكالات التحول في الحاضر العربي، من خلال نموذج تاريخي بعينه، على الرغم من وعينا بأن الأطوار الانتقالية التي تعرفها أغلب المجتمعات العربية قد يكون لها ما يماثلها في أزمنةٍ ومجتمعات أخرى. إلا أن هذا الإقرار الأخير لا يفيد أنه يمكننا أن نجد حلولاً لإشكالات التحول في مجتمعنا، بالاعتماد فقط على ما حصل فيها، فنحن نعتقد أنه يمكن الاستفادة من تحولات التاريخ، انطلاقاً من معاينة جوانب من سيروراته، هنا وهناك، ومن دون إغفال أن الخصوصيات التاريخية المرتبطة بالزمن، المحلي والإقليمي والدولي، ينبغي أن تكون واردةً في ذهن من يتوخى التفكير في تحولات الراهن العربي.

 

 

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".