فلول في شقوق الثورة التونسية

فلول في شقوق الثورة التونسية

25 يناير 2017
+ الخط -
لم تكن الثورة التونسية عملاً دموياً، كما لم تكن فعلاً استأثر بإنجازه حزبٌ أو جماعة أو فئة، بقدر ما مثلت إنجازاً وطنياً بالأساس، قام على مطالب شعبية ذات مضامين اجتماعية، واستبطن غاياتٍ سياسيةً، لا يمكن نفيها، مثل حرية التعبير وحق التنظم والمشاركة في صنع القرار. غير أن هذا الحراك الشعبي الذي حقق إنجازاتٍ مؤثرة، أهمها إطاحة رأس النظام الاستبدادي، بالإضافة إلى قطع خطواتٍ واضحةً في اتجاه بناء نظام ديمقراطي، تجسّد في دستور جديد أكثر انفتاحاً على حقوق الإنسان، وانتخاباتٍ متتاليةٍ، عبر من خلالها جمهور الشعب عن اختياراته السياسية في كنف التعدّدية والحرية، لا يزال متعثراً في تحقيق المطلب الاجتماعي، فقضايا التشغيل ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية ظلت تراوح مكانها، ولم يشعر المواطن بوجود تحقق فعلي لما كان يرنو إليه في هذا المجال.
ولأن المطلب الاجتماعي هو القادح الفعلي للثورة، وهو العنصر الفعّال الذي يمكن من خلاله تعبئة الشارع، ودفعه نحو التحرّك، فقد كان هو المدخل الذي بدأت من خلاله الثورة المضادة تتحرّك. وعلى الرغم من أن قوى النظام السابق هي المسؤولة عن الجزء الأكبر من حالات التهميش الاجتماعي والفساد الاقتصادي والتفاوت الجهوي، طوال سنوات استأثرت فيها بالحكم، فقد كان ما يأمله جمهور الشعب في انتظاراتهم وتطلعاتهم أكبر مما تحقق لهم فعليا بعد الثورة. ومن هنا، بدأ الإعلام يركّز على هذا الجانب طوال السنوات الثلاث الأولى من الثورة، حيث عرفت حينها البلاد تحركاتٍ اجتماعية متتالية، وحالة فوضى في القرار، وغياباً للإصلاحات الاجتماعية المؤثرة في مقابل حضور الإصلاح السياسي الذي كان مطلبا ضروريا للنخبة قبل غيرها.
ومن هنا، كانت بكائيات أركان النظام السابق على زمن ما قبل الثورة، ومحاولات التيئيس
 والتشكيك، وإيجاد بؤر التوتر، عاملا مضاعفا وضاغطا على القوى السياسية الصاعدة انتخابيا إلى الحكم بعد الثورة. ومن خلاله، استعادت القوى المناوئة لها أنفاسها، خصوصاً من خلال ما جرى من اختلال في الجانب الأمني، مع تواتر الاختراقات في هذا المجال، بداية من اقتحام مقر السفارة الأميركية، وصولا إلى اغتيال بعض الشخصيات الحزبية، وليتم تتويج كل هذه الأحداث بحملاتٍ إعلاميةٍ ممنهجةٍ، تقوم على ترويج خطابات التخويف والترهيب والتشكيك في وطنية كل من واجه النظام السابق. واستطاع أتباع الرئيس المخلوع لملمة شظايا حضورهم السياسي، مستفيدين من الصراع الإيديولوجي المفتعل بين قوىً سياسية كانت هي ذاتها مستهدفة من النظام السابق، لتستعيد حضورها في المشهد السياسي، وتعود إلى سدة الحكم. ولكن، من دون أن تقدم شيئا مما وعدت به، بل ركزت كل جهودها على استعادة مواقع نفوذها وإعادة التشكل من خلال السلطة. ولأن حل المشكلات المركزية للمجتمع التونسي ليست مما يستطيع المتحدّرون من النظام السابق حله، كانت الاستراتيجيا الجديدة تقوم على تقنية صرف الانتباه وإشغال الناس عن قضاياهم الكبرى. وعوضا عن حل مشكلات البطالة والفساد وهدر المال العمومي ومراجعة أداء المؤسسات الحكومية، تم إيجاد محاور صراع جديدة، تتعلق بإثارة قضايا الهوية والخلافات الإيديولوجية ضيقة الأفق، والتفتيش في ملفات الماضي بخلافاته السياسية، من دون البحث عن حلول للتقدّم إلى المستقبل.
تمكّنت الثورة التونسية فعلياً من مجاوزة نمط الحكم الاستبدادي، وتحولت إلى أيقونةٍ استلهمتها الشعوب الأخرى، ولكنها، وككل التحولات الكبرى والعميقة، تعاني من ارتدادات الانتقال نحو 
الديمقراطية، وهدم أسس النظام الاستبدادي الذي هيمن عقوداً على البلاد. وربما كان ما يسود المرحلة الحالية من تداخل في المشهد السياسي، حيث نجد أنفسنا أمام حكم ائتلافي بين قوى غير متجانسة، تقابله معارضة مشتتة، بأسها بينها شديد، وغير قادرة على الوحدة على الأدنى المشترك سياسياً، وما يرافق هذا كله من توترات اجتماعية متنقلة، تجسدت في تحركات شعبية في مناطق مختلفة (القصرين، تالة، سبيطلة، المكناسي، بن قردان ..)، بالإضافة إلى أداء حكومي باهت، ورئيس حكومة يفتقر إلى الكاريزما، وخاضع في أدائه لسيطرة رئيس الجمهورية الذي يتحكّم فعليا في المشهد. توحي كل هذه القطع المكونة للمشهد السياسي التونسي الحالي بأن مرحلة الانتقال الديمقراطي لازالت تلقي بظلالها على البلد، وأن آلام مخاض الانتقال نحو بنية سياسية ومجتمعية جديدة لازالت ترافق الثورة التونسية في ذكرى انتصارها السادسة.
ما جرى في تونس من خطوات فعلية نحو ترسيخ شكل ديمقراطي للممارسة السياسية في البلاد، وعلى الرغم مما تبذله الدول الداعمة للثورات المضادة من جهد للالتفاف على هذا المسار، يمكن القول إنه يصعب استنساخ النماذج الانقلابية، وتعميم الفوضى، ونقلها إلى تونس، لعوامل كثيرة، أقلها الخصوصيات التي تميز البنية المجتمعية، والهيكل السياسي القائم في كل بلد، والملابسات الداخلية والتجاذبات الإيديولوجية التي تتشكل من خلالها المجتمعات. غير أن هذا لا يمنع من تواتر محاولات إحياء حضور القوى المتنفذة زمن الدكتاتورية، ولعل أخطر هذه المحاولات ما جرى، أخيراً، من جهد لتبييض بعض رموز الفساد المالي، وتقديمهم من بعض وسائل الإعلام بوصفهم ضحايا لمرحلة (وهو ما يمكن ملاحظته في الحوار التلفزيوني مع بلحسن الطرابلسي، أحد أساطين الفساد في أثناء حكم بن علي والمطلوب قضائيا)، وهو ما يفرض على القوى السياسية المسؤولة في الحكم، أو في المعارضة، أن تبذل جهداً مضاعفاً لمنع عودة لصوص المال وشرعنة وجودهم وتأثيرهم، خصوصاً أن ممارساتهم كانت أحد الأسباب لاندلاع الثورة، ومحاسبتهم مطلب شعبي لا يمكن التغافل عنه.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.