يساريو بنكيران في المغرب

يساريو بنكيران في المغرب

16 سبتمبر 2016

من مظاهرة بالدار البيضاء نظمتها أحزاب يسارية (24/12/2006/فرانس برس)

+ الخط -
يحتاج السؤال الذي يتكرّر هذه الأيام في وسائل الإعلام المغربية، والمتعلق بطبيعة تجاوب يساريين كثيرين مع تجربة حكومة عبد الإله بنكيران، إلى شيء من التدقيق. ذلك أن خلفيته غير المعلنة تنطلق من صورةٍ متخيلة عن اليسار كـ "طائفة" إيديولوجية مغلقة.
لنوضح، اقتصادا في التحليل، نعني تحديداً اليسار الديمقراطي، المستوعب فكرة الديمقراطية والتراث الليبرالي. ثم لنضف إلى ذلك سؤالاً صغيراً وساذجاً حول طبيعة اليسار المغربي في علاقة بالمحدّد الإيديولوجي في تشكيله وبناء مخياله السياسي؟
ولنجب بسرعة، ومن دون إطالة: لم يكن اليسار المغربي، في بداية تشكله، وليداً لمجرد مخاض فكري وثقافي، بل انطلق، منذ البدء، في سياق الحركة الوطنية، ضرورة سياسية وتاريخية، وتعبيراً مجتمعياً له وزنه. لذلك، لم يكن أبداً، منذ بداياته وخلال كل تحولاته الكبرى، ممارسةً تبتلعها الإيديولوجيا، على حساب الموقف السياسي والحقيقة المجتمعية.
ولذلك، كان وطنياً في البداية، تم تحول إلى تعبير تقدمي في زمن تصدّع الحركة الوطنية. ولذلك، عرف نضجه الكبير تفاعلاً مع الفكرة الديمقراطية في أواسط السبعينات.
الخلاصة أن يسارنا المغربي لم يكن، خارج تجارب معزولة، مجرد ظاهرة إيديولوجية، بل كان، في غالبية تاريخه، حقيقة مغربية وسياسية، لم تجعل من النقاء الفكري أولويةً مطلقة لها. لذلك ظلت علاقته بالمجتمع ومواقفه من المنظومة الثقافية والدينية والرمزية طبيعية.
نعم، اهتم اليسار ببناء مرجعيته القيمية والفكرية، وتوضيح خياراته المذهبية، لكنه ظل منفتحاً على الواقع، ومنتبهاً إلى حقيقته الأولى تياراً وطنياً وشعبياً. لذلك، كان من السهل عليه التجذّر المجتمعي، والتحوّل قوة انتخابية ناجعة. ولذلك، سيكون ممكناً كذلك أن تتأسّس تجربة رائدة، مثل الكتلة الديمقراطية.
غاية هذه التوضيح القول إن بناء الموقف اليساري العام من تجربة حكومة بنكيران لم يكن يوماً داخل غالبية التنظيمات اليسارية شأناً مرتبطاً بالموقف الإيديولوجي من ظاهرة الإسلام
السياسي، بل كان بالأساس موقفاً سياسياً دقيقاً من المرحلة وسياقاتها وتفاعلات المسألة الديمقراطية داخلها. ولعل هذا الموقف يرتبط أكثر بسؤال الموقف من الديمقراطية، ذلك أن جزءاً من اليسار اعتبر المشاركة في تجربة الحكومة تعزيزاً لمسار البناء الديمقراطي، فيما اعتبر جزءٌ آخر أنه يمكن، من موقع المعارضة، تدعيم التجربة، وإنجاح الصيغة الجديدة للتناوب، عبر التمييز الواضح بين المعارضة ومقاومة الإصلاح، وبين أجندة المعارضة الديمقراطية وأجندة "القوة الثالثة". أما الجزء الثالث فقد اعتبر أن التجربة لن تضيف شيئاً للعملية الديمقراطية بالأساس، لأن شروط المشاركة السياسة لم تنضج بعد. لذلك، نظر الجزء الأول إلى بنكيران حليفاً في الحكومة، وفي مشروع البناء الديمقراطي، ونظر إليه الجزء الثاني خصماً ديمقراطياً يمكن أن يكون شريكاً في العملية الديمقراطية. ونظر إليه الجزء الثالث إصلاحياً يدخل مغامرة منذورة للفشل.
خارج هذه الخانات التي تحاول، باختزال، اختصار وضعية أكثر تعقداً، هناك نوع من اليسار الذي اشتغل بحيويةٍ في أجندة القوة الثالثة، لإفشال التجربة. وهو بالتأكيد لم يفعل ذلك مدفوعاً بطفوليةٍ يساريةٍ تعيش تضخماً في الإيديولوجيا، لكنه، بالأساس، فعل ذلك، لأنه لا يؤمن في الواقع بالديمقراطية، أو لانه لا يمتلك في الأصل قراره المستقل.
لذلك، اليوم، عندما تصنع التجربة ديناميتها الخاصة، وتستطيع إقناع بعض المتردّدين برهاناتها، وتظهر أصواتٌ واضحةٌ لشبابٍ بخلفية يسارية، من قلب تجربة 20 فبراير/شباط، استطاعت أن تطوّر قراءة خاصة للمرحلة، وأن تبني موقفاً سياسياً مطابقاً لما تعتبره حلقةً مركزيةً في دينامية التحول السياسي، عبر دعم تجربة حزب العدالة والتنمية، بمنطق إصلاحي، ومنهج واقعي، مبتعد عن العمى الإيديولوجي، ينجح في تحليل طبيعة التعقدات ومستويات التناقضات التي تخترق المرحلة، فهذا معناه أن الخلفية اليسارية ليست عائقا لبناء "الموقف الديمقراطي" من تجربة حكومة بنكيران.
ليس لهؤلاء الشباب، مثلا، أي علاقة بالإسلام السياسي، لكنهم يعرفون أن المعركة اليوم ليست بين الإيديولوجيات، وأن هذا الموقف لا يعني التخلي عن قناعاتهم العلمانية والحداثية. وهم يحلمون بتنظيم يساري كبير، يدافع عن الديمقراطية، ويقدّم بديلاً اجتماعياً إرادويا على الاختيارات الليبرالية لفريق بنكيران، لكنهم يعرفون طبيعة موازين القوى في المجتمع، ويعرفون، بالسليقة، أن الاختيار السياسي لا يعني، في التفعيل اليومي للموقف، تمريناً أخلاقياً سهلا، ولا اختياراً سهلا بين الأبيض والأسود، ولا مفاضلةً معيارية بين الخير والشر، بل هو، في الغالب، تقدير دقيق بعيد من أن يشكل وضعيةً مثالية.
لا يقتسم هؤلاء الشباب مع "العدالة والتنمية" اختياراته المذهبية، ولا علاقته بالجناح الدعوي،
وهم لا يعتبرون تجربته في الحكومة نجاحاً باهراً، لكنهم يقدّرون أن السياقات المعقدة للمرحلة وضعت هذا الحزب في قلب معركة الدفاع عن إرادة صناديق الاقتراع. معتبرين أن الحلقة المركزية للصراع السياسي، اليوم، لا تتجلى في الأولوية الإيديولوجية وفي قضايا الإعدام والحرية الفردية وتوترات الهوية والمواطنة، لكنها ترتبط بجدول أعمال سياسي واضح، يتجلى في الدفاع عن القرار الحزبي المستقل، احترام الإرادة الشعبية، تعزيز البناء الديمقراطي، احترام صلاحيات المؤسسات المنتخبة، التأويل الديمقراطي للدستور.
لم يكن الاتفاق حول جدول الأعمال السياسي هذا ليخفي إمكانية إعلان الاختلاف الواضح في المرجعيات الإيديولوجية والمذهبية، باعتبارها تباينات مبدئية ومرجعية واستراتيجية. ولم يكن ليجمد ديناميّات التوتر الهوياتي، باعتبارها تنتمي إلى زمن ثقافي عميق، وتحتاج إلى تدبير ذكي، لا يتجاهل حقيقتها السوسيولوجية، ولا يعتبرها توتراتٍ مصطنعة أو مستوردة، لكنه لا يغامر كذلك بتحويلها إلى تقاطباتٍ مجتمعيةٍ وهوياتية حادة.
أكثر من ذلك، لم يمنع جدول الأعمال السياسي هذا بتاتاً من معارضة كثير من اختيارات الحكومة وسياساتها، ذلك أن بدايات تجربة هذه الولاية كانت قد تميزت، مثلاً، بانطلاق إرهاصات معارضة وطنية وديمقراطية للتجربة الحكومية، تقع على مسافةٍ من برنامجها وسياساتها، من دون أن تسقط في فخ تقمص وظيفة جيوب المقاومة، وهي عموماً تجربة "معارضة" قتلت في بداياتها.
لذلك، كانت القضية، في الأصل، ولا تزال، هي القدرة الجماعية على بلورة ما يمكن تسميته الموقف الديمقراطي من تجربة حكومة عبدالإله بنكيران، هذا الموقف الذي يتجاوز التموقعات الإيديولوجية، ولا يتعلق، بالضرورة، بالاتفاق مع قراراتها وسياساتها في التدبير.
ذلك أنهم لا ينظرون إليها تجربة حكومية في سياق مؤسساتي وديمقراطي مكتمل. وفي ظل فرز مجتمعي إيديولوجي طبيعي، تتطلب معه التقييم من زاوية اليسار واليمين، أو من زاوية المعارضة والأغلبية، بل تتطلب أساساً أن ننظر إليها بوصفها محاولةً في تجريب انفتاح محدود ومراقب للنظام السياسي على المشروعية الانتخابية والديمقراطية، تجربة محكومة بسياق مرحلة خروج متردّد من السلطوية، قد يسمح بتعزيز مكاسب المشاركة ومسالك التمثيلية، كما يحمل مخاطر الارتداد والتراجعات.
لذلك، يخترق هذا الموقف الديمقراطي من هذه التجربة، الاصطفافات الإيديولوجية، ويسمح بالنسبة للمدافعين عنه بتملك الحلقة المركزية لسيرورة البناء الديمقراطي في المغرب، باعتبارها معركةً للدفاع عن الإرادة الشعبية والتأويل البرلماني للنظام السياسي، والقرار الحزبي المستقل واختيار الناخبين.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي