عن التعاقب الحكومي في تونس

عن التعاقب الحكومي في تونس

16 اغسطس 2016

يوسف الشاهد..رئاسة الحكومة التونسية السابعة بعد الثورة (3 أغسطس/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
أثبت التونسيّون، بعد خمس سنوات من الثّورة، قدرةً على التّعايش السّلمي، والتّنافس الحضاري على السّلطة، وشهدت البلاد، في ظرف زمنيّ وجيز، تولّي سبع حكومات زمام إدارة الشّأن العامّ، تعاقبت جميعها على الاضطلاع بالمسؤوليّة في كنف السّلاسة، والقبول بمقتضيات المرحلة الانتقاليّة والفترة التأسيسيّة. فكان تولّي محمّد الغنّوشي زمام الحكومة تفادياً لمعضلة الفراغ الدّستوري بعد رحيل الدّيكتاتور بن علي. وكان تسلّم الباجي قائد السّبسي الشأن الحكومي بعده تأميناً لسيرورة المرحلة الانتقاليّة، واستعداداً لانتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 التي جرت في تمام الشفافيّة، وشهدت الهيئات الدوليّة بنزاهتها. وأفضت إلى صعود حركة النّهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة إلى الحكم أوّل مرّة في تاريخ تونس، وأبدت الحركة ميلاً واضحاً إلى إدارة البلد، وفق مقاربة ائتلافيّة تشاركيّة، في إطار ما عُرف بحكومتي الترويكا الأولى والثانية اللّتين جمعتا بين علمانيّين وإسلاميّين، أشرفوا على تسيير البلاد في فترة دقيقة من تاريخها. فترة شهدت تزايد وتيرة العنف السياسي، ونسق الاحتجاجات المطلبيّة، وعرفت فيها البلاد هزّات اجتماعيّة واقتصاديّة لم تفض، على خطورتها، إلى زعزعة كيان الدّولة وفكّ رباط الوحدة الوطنيّة، بل أدّت إلى الدّفع بالفرقاء السياسيّين إلى طاولة الحوار الذي أشرفت على إدارته منظّماتٌ مدنيّةٌ وحقوقيّةٌ ونقابيّةٌ مثّلت الحراك المجتمعي، وهجست بمطالب المواطنين، ورغبتهم في استبدال تجربة الحكم الائتلافي المتحزّب بحكم تكنوقراطي توافقي، بقيادة مهدي جمعة الذي هيّأ البلاد للانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 التي أفضت إلى صعود "نداء تونس" إلى دفّة الحكم، وتولّي الباجي السبسي رئاسة الجمهورية، والحبيب الصيد رئاسة الحكومة.

وعلى الرغم مما عبّر عنه الأخير من نياتٍ إصلاحية، وما بذله من جهود في هذا الخصوص، فإنّه لم يُوفّق في إخراج البلاد من ضائقتها الاقتصادية، وأثّرت على أداء حكومته العمليات الإرهابية الغادرة التي هزّت السلم الاجتماعي، وضربت السياحة في مقتل. وأدّى ذلك إلى تراجع الدعم السياسي والشعبي للصيد، حتّى صوّت أغلبية نوّاب الشعب بعدم تجديد الثقة لحكومته (30 يوليو/ تموز 2016). ومن بعده، أذن رئيس الجمهورية بتكليف يوسف الشاهد (41 عاما) بتشكيل حكومة جديدة.
والجميل في هذه التجارب الحكمية، على اختلافها، أنّها رسّخت تقاليد التداول السلمي على السلطة، وأخبرت أنّ الأطراف السياسيّة الحاكمة لم تتعامل مع الحكم على أنّه غنيمة لا ينبغي التّفريط فيها، بل تكليف زمنيّ محدود، قابل للتّجديد وللتّحديد، وللتغيير متى اقتضت المصلحة الوطنية ذلك. وهذا الوعي بأنّ السّلطة تكليفٌ لا تشريف، والتّعامل مع تجربة الحكم على أنّها تمرين سياسيّ، يحتمل النّجاح ويحتمل الفشل، ساهم في فكّ الارتباط مع تاريخ الدّولة الكليانيّة/ الأحادية على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه بن علي، وساهم في دمقرطة الشأن السياسي في تونس الجديدة. لكن الإشكال متمثّلٌ في أنّ الحكومات المتعاقبة، على الرغم من نجاحها في توسيع مجال الحرّيات العامّة والخاصّة، وفي صوغ دستور توافقي/ تقدّمي، لم تنجح في تحقيق الانتقال الاقتصادي المنشود، وفي تحويل أهداف الثورة إلى واقع، خصوصاً ما تعلّق منها بالتشغيل، والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالمناطق المفقرة، ومكافحة الفساد، فنسبة البطالة لم تتراجع، والمقدرة الشرائية للمواطن ما فتئت تتدهور، والجهات الطرفية والداخلية لم يصل إليها قطار التنمية بعد، والعدالة الانتقالية بطيئة أو هي معطّلة، والفساد ما انفكّ يستشري. ويمكن تفسير الأداء الحكومي المتعثّر على مدى سنوات بعدّة معطيات، لعلّ أهمّها أن الحكومات المتتالية لم تقم بتشخيص الواقع وبلورة قراءة نقدية، موضوعية لإخفاقات سابقاتها ومنجزاتها. بل كانت ميّالةً إلى إلقاء اللوم على السلف، وتقديم وعودٍ سخيّةٍ إلى المواطنين، هي عاجزة عن تحقيقها، وعن بلورة إستراتيجيات واضحة لتفعيلها. وهو ما أنتج أزمة ثقةٍ بين المواطن والدولة، فأصبح ناسٌ كثيرون يرون خطاب أصحاب القرار موجّهاً للاستهلاك الإعلامي والدعاية الانتخابية لا غير.
كما أنّ عدم وجود شخصيّة قويّة، كاريزميّة في رئاسة الحكومة، تحظى بقاعدةٍ شعبيةٍ واسعة، وبإجماعٍ سياسي متين، أدّى إلى إنتاج حكوماتٍ مرتبكة، حكمت البلاد بأيادٍ مرتعشة، وعجزت عن مواجهة أباطرة التهريب والفساد ودعاة التعطيل العشوائي للمرافق العمومية. يضاف إلى ذلك أنّ تلك الحكومات لم تتوصّل إلى بلورة توافقاتٍ ناجعةٍ وطويلة المدى مع الأطراف النقابية، وهو ما جعل بعض المؤسسات الإنتاجية الحيوية في مهبّ الإضرابات والاعتصامات، ما أثّر سلباً على حركة التصدير والاستثمار في البلاد. ومعلوم أنّ عدم إصلاح المؤسسة الأمنية وعدم تأهيلها لاستباق العمليات الإرهابية لا يساعد في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي المأمول. كما أنّ تقييد رئيس الحكومة بإكراهات المحاصصة الحزبية، وتدخّلات رئاسة الجمهورية، ساهم في تشتيت الجهد الحكومي لا محالة.
لذلك، من المهمّ لضمان نجاح حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة التوجّه نحو توسيع دائرة التوافق الحزبي حولها، وإسنادها من المنظمات النقابية والمدنية، والعمل على تطعيمها بطاقاتٍ شابّة، من ذوي الكفاءة، الواعين بالتحدّيات الجسيمة التي تواجهها تونس، والقادرين على تحويل محامل الدستور إلى واقع، وأحلام الثورة إلى حقيقة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.