سلام ضد السلام

سلام ضد السلام

07 يوليو 2016
+ الخط -
كثرت، في الآونة الأخيرة، الجهات ومؤسسات المجتمع المدني و"الشخصيات" التي تقدّم نفسها بأنها تعمل لإحلال السلام في بلدان الربيع العربي، حتى باتت مفردة السلام أكثر تواتراً من مفردات الحرية والثورة والعدالة، الأمر الذي يستوجب تحليلاً عميقاً لهذا السلام، والبحث في دوافع الساعين إليه.
إذا كان مشروعاً الحديث عن السلام، باعتبار أن بعض أربعاء العرب انزلقت إلى ما يشبه الحرب الأهلية، فإن اللامشروع أن يؤدي "السلام" هذا إلى طمس ملامح الثورات ومطالبها، والانطلاق في تحليل ما جرى بأنه حرب أهلية (حاف)، ولا يحتاج الأمر أكثر من العمل على إيقافها وفق تسويةٍ ما، تعيد إنتاج النظم، أو تعطي "المكونات المتحاربة" حقوقها، كأننا أمام طرفين متعادلين في المسؤولية و"الحرب"، ما يجعلنا نضع أيدينا على أول أعطاب السلام المنادى به، لأنه ينسف الجذر الأساس للمشكلة، ويحلّ بدلاً منها جذراً آخر، طالما أرادته السلطات المستبدة، فالسلام ينطلق هنا باعتباره ضد الحرب، والحرب تستوجب تسويةً مؤلمةً للطرفين، تفرضها موازين القوى، وليس باعتباره مدخلاً أو خطوة أولى لحصول الشعوب على حقوقها المهدورة على يد نظمٍ مستبدة، أو بدء عدالةٍ انتقاليةٍ، تجعل من هذا السلام قابلاً للعيش، وممراً إجبارياً لعودة الشعب إلى ساحة السياسة، بل يسعى هذا "السلام" جاهداً إلى إحلال مفردة "المصالحة" مكان العدالة الانتقالية، كأننا أمام مكوناتٍ متقاتلةٍ، ولا بد من مصالحتها.
تكشف النماذج التطبيقية لـ "المصالحة" التي تبناها أصحاب هذا الرأي، وحدها زيف الادعاءات خلف هذا "السلام"، إذ طالما شجع هؤلاء المصالحات (أحياناً كانوا طرفاً فيها، كمجتمع مدني خصوصاً) التي جرت (أو تم التفاوض بشأنها) بين النظام السوري والقوى المسلحة في بعض المناطق السورية (الوعر، برزة، المعضمية، الزبداني...). ويبين تأمل نتائج هذه المصالحات أن النظام لم يلتزم بتنفيذ كل بنودها، خصوصاً فيما يتعلق بإطلاق المعتقلين وإدخال المواد الغذائية، ناهيك عن عودته إلى نسف الاتفاق كله، حين يريد أو تقتضي مصلحته ذلك، لنكون أمام مصالحاتٍ تلبي حاجة النظام، لا غير، لتهدئة ساحات القتال للتفرغ لساحاتٍ أخرى، على أن يعود إلى تلك الساحات ويفرض رؤيته وبلطجيته من جديد، الأمر الذي يحول المصالحات إلى مجرد أداة للحرب وإعادة إنتاج النظام مجدداً، خاصة حين ندرك أن "الضامن" لهذه المصالحات هو النظام أو حلفاؤه الذين لايتورعون عن إعلان نظرتهم التحقيرية للشعب السوري وثورته، فالمضمر، هنا، أن النظام سيد كل شيء، وغالباً ما يختفي عند هؤلاء تحت مسمى "الدولة"، والهدف الأساس قطع الطريق على أية جهة دولية تتدخل لحماية السوريين، أو فرض شروطه عليه.
ويركز أنصار هذا السلام على مسائل نظرية كثيرة، مثل الدستور الجديد والانتخابات وآليات
عمل الحكومة، إلا أنه يهمل آليات تطبيق ذلك، وكيفية فرضه على النظام، ما يكشف زيف السلام المنادى به مرة أخرى، أو جهل أصحابه بآليات عمل النظام والدولة العميقة الحاكمة، فهم ينطلقون من افتراض أننا في دولةٍ طبيعية، لا تحتاج أكثر من تعديل الدستور، حتى تعود إلى العمل بسلاسة، ويحصل كل على حقوقه! إذ يقفز هؤلاء فوق العنصر الأهم (تفكيك الدولة العميقة أو بدء الطريق نحو تفكيكها) لصالح عناصر ثانوية، مثل الدستور والحكومة والبرلمان وطبيعة النظام (على أهميتها)، إلا أنها تصبح مجرد حبر على ورق، أو أدوات زينةٍ لتجميل صورة الدولة العميقة الحاكمة بالفعل، إنْ لم تسبق بآلياتٍ توضيحيةٍ وتنفيذيةٍ قابلة للتحقق على الأرض لكيفية تفكيك الدولة الأمنية، وإصلاح الجيش، وإخضاعهما للقانون فعلاً لا قولاً، بما يعطي الناس الأمل بهذا السلام الذي لن يكون إلا خطوةً أولى باتجاه تجذير النضال لبناء دولة المؤسسات، في حين أن الرؤية المطروحة لا تفعل إلا إعادة إنتاج النظم بطريقةٍ أو بأخرى، معتبرةً أن السلام يحل بإيقاف الحرب الظاهرية، وبسط الدولة سلطتها، متغافلين عن الحرب الصامتة واليومية لنظم الاستبداد ضد الشعوب، ومعتبرين أن "الأمن والسلام" اللذيْن كانت تحظى بهما البلدان قبل الثورات هو غاية بحد ذاتها، كأن الشعوب ثارت لأنها تحب الحرب، وليس ضد أنظمةٍ لا تحكم إلا بمنطق الحرب، حتى في أوقات "السلم" الكاذب.
إذن، يحتاج السلام ليكون حقيقياً، لأن ينطلق أولاً من الاعتراف بأن ما جرى في البلدان ثورات، وليس حروباً أهلية أو صراعات، وإن كان انحرف بعضها نحو الحرب فعلاً، لأن السلام الناتج عن حربٍ أهليةٍ صرف هو بالضرورة غير السلام الناتج عن ثورةٍ تحولت إلى حربٍ أهلية، وثانياً بأن يؤدي السلام إلى تفكيك البنى الأمنية العميقة للنظام، والتي تعمل من خارج الدستور أو الشرعية، فما ينقص البلدان العربية ليس الدساتير أو الانتخابات، بل أن تكون تلك الانتخابات حقيقية، وأن تخضع كل السلطات للدستور، وأن تنتقل السياسة من يد الأمن والعسكر إلى يد السياسيين والحكومة، فعلاً لا قولاً، وثالثاً أن تأخذ العدالة مجراها على الجميع، إذ أثبتت التجارب أن المجتمعات والشعوب لن تثق بأية تسويةٍ، وهي ترى جزاري الأمس في سدة السلطة، فلا سلام من دون عدالة تقتص من القتلة، وتعيد إلى الضحايا وأهاليهم بعضاً من اعتبارهم الرمزي على الأقل.
887F9940-DD14-4E58-BE81-9009CD932F8D
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري، من أسرة "العربي الجديد"، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية.