مفتي سورية أم مفتي المسلمين السوريين؟

مفتي سورية أم مفتي المسلمين السوريين؟

03 ديسمبر 2021
+ الخط -

إقالة النظام في دمشق المفتي أحمد بدر الدين حسون من موقعه، والسجال الذي جرى حولها بين السوريين، وتعيين المجلس الإسلامي السوري الشيخ سارية الرفاعي مفتيا لسورية، في رد فعل على إلغاء النظام منصب المفتي، تثير التفكير في عدد من النقاط التي تنوي هذه المقالة نقاشها.

أولا: نظرا إلى سلوك المفتي حسّون وتصريحاته، خلال الثورة وقبلها، من المفترض أن تكون إقالة الرجل وإزاحته عن المشهد مصدر راحة لمسلمين سوريين كثيرين مثّلهم حسون عبر مصادرته هذا المنصب، من دون أن يأخذ برأيهم أحد وبدعم من السلطة المستبدّة، فأقوال الرجل وتصريحاته منذ بدأ يُقدّم إلى المشهد السوري العام لم تكن تسيء لنظام الأسد بقدر ما تسيء لموقع المفتي، عبر تجيير الإسلام ومؤسساته، لجعله، لا في خدمة السلطة المستبدّة فحسب، بل أيضا للتغطية وشرعنة المجازر والاعتقال والتهجير، وهو أمر من المجحف نسبه لأي دين. ومن هذا الباب، تصبّ إقالة حسون أولا في خدمة من يمثلهم منصب المفتي الذي أساء له هذا الرجل إساءات كثيرة ومتتالية سنوات.

تصبّ إقالة المفتي حسون في خدمة من يمثلهم منصب المفتي الذي أساء له هذا الرجل إساءات كثيرة ومتتالية لسنوات.

ثانيا: كان احتجاج بعضهم، ليس على إقالة حسّون الذي لم يحزن على رحيله كثيرون، بل على إلغاء منصب المفتي من أساسه، بما يحتل من رمزية دينية وتاريخية للمسلمين السوريين السنة. وهذا احتجاجٌ محقّ. ولكن يجب الانتباه إلى عدة نقاط مهمة تتعلق بهذه المسألة، منها أن مركز المفتي طالما كان منصبا تتداخل فيه السياسة بالدين، حيث سعت السلطات السياسية، على اختلاف أنواعها، إلى أن يكون منصب المفتي قريبا منها بهذا القدر أو ذاك. وليس في سورية، بل في العالم العربي بأسره، وربما الإسلامي أيضا، مؤسسة دينية قادرة على إدارة شؤونها الدينية بمعزل عن التدخل السياسي أو الرضى السياسي عنها. تهدف السلطة المستبدّة من ذلك إلى منع تحوّل الدين إلى سلاح ضدها، وإلى تحويله إلى سلاح بيدها ضد الشعب الذي تحكمه. وهنا يلعب رجال دين أدوارهم ككومبارس للسلطة، سواء عبر تجميل صورتها القبيحة أو عبر الصمت على جرائمها، فإن مجرّد وجود هؤلاء إلى جانب الدكتاتور في الاحتفالات الدينية أو غيرها يمنح الاستبداد شرعيته، ما يعني، في نهاية المطاف، أن المؤسسات الدينية في ظل غياب الدولة الديمقراطية وحياد الدين عن الدولة هي مجرّد أدوات في يد السلطة، بل إن السلطة تتحكّم بها، وتنظر إليها واحدا من الحقول الذي يعمل رجال الأمن على هندسته وإدارته. هو بالنسبة لها حقل مثل حقول الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والرياضية أو غيرها من الحقول المؤثرة، تعمل على إدارته وفق مصالحها وسياساتها. تدعم هذا فترة ثم تنقلب عليه، تؤلّب هذا على ذاك، تدعم مؤسّسة الأوقاف على حساب منصب المفتي لتحقيق مصلحة ما، وحين تتحقق تعمل العكس لمصلحة جديدة، ولا تتورّع عن استحداث مؤسسات دينية جديدة، تقدّم لها الدعم على حساب المؤسسات التقليدية حين تقتضي مصلحتها ذلك. وهذا ما يحصل في سورية اليوم، إذ يدرك نظام الاستبداد أنه، خلال السنوات العشر الماضية، خسر دعم كثير من شرائح المسلمين السنة، ولذا يعمل اليوم على إعادة بناء شرعيته بينهم، وهو يدرك جيدا أن وجوها، مثل حسّون وغيره ممن احترقوا شعبيا وتحديدا عند السنة السوريين، لا يمكن أن يخدموا سياسته الجديدة، ولذا يعمل اليوم على إعادة هندسة الحقل الديني السني وفق ما تقتضي مصالحه. ويفعل الأمر نفسه مع الأديان والطوائف الأخرى، وأيضا مع الحقول الأخرى، أي أنه يعمل (بالتوازي مع العمل الحثيث الجاري في الإقليم اليوم لإعادة التطبيع مع النظام السوري وتعويم الأسد) على إبراز صورةٍ جديدةٍ له تجمّل القبيح الذي ارتكبه أو تغطّي عليه. وبالتالي، فإن غياب مؤسسة الإفتاء، من هذه الناحية، لن يؤخر أو يقدم بشيء، لأن المؤسسات الدينية الجديدة التي صنعها النظام ستقوم بالمهمة نفسها التي كانت تقوم بها تلك المؤسسة، عبر تجيير الدين وجعله في خدمة السلطة. وبالتالي ليس لأحد أن يحزن في هذا السياق، لأن الدور الذي كانت تقوم به مؤسسة الإفتاء عمليا في ظل نظام الاستبداد ستستأنفه المؤسسات الجديدة التي تم إنشاؤها لهذا الغرض.

ومن جهة أخرى، وكون مؤسسة الإفتاء دينية في نهاية المطاف، فهي (مثل أي مؤسسة) تنتج، مع الزمن، مصالحها الخاصة بها، وصراعاتها البينية مع المؤسسات الدينية الأخرى وداخل المجتمع الدي تعمل عليه. وبالتالي، تبقى هذه المؤسسة، وأية مؤسسة أخرى، عرضة لتجاذب المصالح، بما يسيء، في نهاية المطاف، لموقع الدين نفسه، باعتباره دينا ينأى بنفسه عن المصالح والصراعات الدنيوية لصالح العامل الروحي الذي يجعل علاقة الإنسان مع الله أكثر غنىً وسموا وفردية وتحرّرا.

يكاد يكون لكل نظام عربي مؤسساته وأبواقه الدينية التي تشرعن سياسته وتجمّل استبداده

ثالثا: كما تتطوّر كل الحقول الاجتماعية الثقافية، تتغيّر من زمن إلى آخر طبيعة علاقة الفرد مع المؤسسة الدينية وطريقة علاقة الفرد مع الله وشكل التدين، فإيمان المسلم أو المسيحي أو اليهودي (أو أي دين آخر) وعلاقته مع الله من جهة ومع المؤسسات الدينية القائمة من جهة أخرى في هذا العصر هي غيرها في عصر سابق، وستكون غيرها في عصر لاحق، فمعنى الدين، في أذهان البشر وتمثلاته في سلوكهم اليومي تختلف من عصر إلى عصر. وعليه يكون السؤال اليوم: هل يحتاج المسلمون السوريون اليوم إلى مؤسسة إفتاء حقا؟ ما دور مؤسسة الإفتاء في القرن الواحد والعشرين؟ ما علاقة هذه المؤسسة مع الدولة والسلطة من جهة وعموم المسلمين من جهة أخرى؟ أي مسلمين تمثلهم هذه المؤسسة؟ هل تمثل كل المسلمين السوريين أم بعضهم؟ كيف يُنتخب أعضاء هذه المؤسسة؟ أي دور تؤدّيه في الدولة الديمقراطية لاحقا؟

هذه أسئلة كثيرة، ينبغي طرحها عبر مساءلة المسلّمات التي قامت عليها المؤسسات الدينية كافة (وهذا جزء من الأسئلة التي طرحتها الثورات في الجوهر، وهي الأسئلة المطروحة اليوم على كل الحقول الأخرى، السياسية والدينية والاجتماعية والجنسية والبيئية والاقتصادية والنسوية ..). والأهم تحديد المعنيين بهذه المؤسسة بعيدا عن التعميمات الشمولية، فالمفتي السوري أولا هو مفتي المسلمين السوريين، وليس مفتي سورية، لأن سورية ليست كلها إسلامية، بل هي ذات أديان وطوائف متعدّدة. وبالتالي القول إن المفتي هو مفتي سورية هو كلام مُسقَط من فوق، ليجعل من جميع السوريين بحاجة إلى سلطة الإفتاء تلك، في حين أن المفتي هو مفتي المسلمين السوريين السنة، وفقط الذين يقبلون بسلطة الإفتاء تلك، لأن ليس جميع المسلمين السنة في سورية قابلين بتلك السلطة أيضا، فداخل الطيف السني السوري إسلامات متعدّدة، منها ما قد يقبل بسلطة الإفتاء، ومنها ما قد لا يقبل بها، ومن يعتبر أنه ليس في حاجة لها، لأنه يستطيع أن يقيم علاقة مباشرة مع السماء من دون الحاجة لها، أو ربما له مؤسسة أخرى أو سلطة أخرى، وهذا ينطبق على جميع الأديان والطوائف الأخرى بطبيعة الحال. من دون أن يعني هذا الكلام إلغاء مؤسسة الإفتاء، بل طالما هناك من يرى أن هذه المؤسسة أو غيرها تمثله، وأنه بحاجة لها روحيا ودينيا، فهذا حقّ له يجب أن يصان ويحترم، كما يجب أن تُحترم حقوق الآخرين وتوجهاتهم الدينية، وبشرط ألا يفرض أحد وصايته الدينية على أحد، أو يقول إنه يمثل الكل أو يعبّر عن الكل، فكل جهة تعبّر عن نفسها، وعن مجموع الأفراد المؤمنين بها وبدورها فقط لا غير. وليس لأي جهةٍ أن تحدّد وحدها هوية سورية، ومن دون أن يعني هذا مصادرة حقها في قول قولها عن رؤيتها إلى هوية سورية، وهي الرؤية التي يتفق الآخرون معها أو يرفضونها.

يدرك النظام جيدا أن وجوها، مثل حسّون وغيره ممن احترقوا شعبيا وتحديدا عند السنة السوريين، لا يمكن أن يخدموا سياسته الجديدة

رابعا: لم تكن سنوات الربيع العربي سنوات تعرية لقبح الاستبداد العربي وعهره فحسب، بل كانت تعرية للحقول كافة، الديني والثقافي والاجتماعي ..، إذ بات واضحا في كلٍّ حقل من وقف مع الاستبداد ومن وقف مع مطالب الشعوب العربية العادلة. ولم يكن الحقل الديني استثناء في هذه المسألة، حيث تبيّن مدى اختراق الاستبداد المؤسسات الدينية في العالم العربي، إذ تكاد تكون لكل نظام عربي مؤسساته وأبواقه الدينية التي تشرعن سياسته وتجمّل استبداده، الأمر الذي يطرح مسألة العلاقة بين الدين والسلطة على نطاق البحث، ليس في الراهن الحالي، الآن وحسب، بل أيضا على امتداد التاريخ الإسلامي، وهذا أمر ينبغي أن يقوم به المسلمون وأنصار الأديان أنفسهم قبل أي أحد آخر، عبر رفع الغطاء الديني عن هؤلاء، لأن هؤلاء مجرّد أدوات وبيادق في يد الاستبداد، مثلما هي الجيوش والجنرالات ورجال الأمن والمخبرون، فهؤلاء يشوّهون الدين ويجيّرونه لخدمة المستبد، وفضحهم هو أولوية دينية قبل أن تكون ثقافية أو ثورية. والإشكال الذي تقودنا إليه هذه المسألة أن بيادق السلطات هؤلاء قد أقدموا، على امتداد التاريخ، على سنّ الفتاوى التي كتبت أساسا بهدف خدمة السلطان، ولكن هذه الفتاوى تحوّلت، مع الزمن، إلى جزء من المدوّنة الفقهية التي لا يطاولها النقد، وأصبح مسلمون كثيرون يتعاملون معها كمقدّس، الأمر الذي يتطلب إعادة قراءة معرفية نقدية لكامل هذه المدونات الفقهية، ولتاريخ العلاقة بين المؤسسات الدينية والسلطة. وعلى ضوء ذلك، يتم مراجعة ونقد الكم الهائل من الفتاوى والنصوص الذي دخلت المدونة التراثية الإسلامية من هذا الباب، وتحوّلت، مع الزمن، إلى نصوص مقدّسة لا يطاولها الشك أو النقد.

النقطة الثانية التي ينبغي الانتباه لها، في هذا الصدد، أن كثيرين من رجال الدين (وهذا ينطبق على حقول السياسة والثقافة) الذين كانت لهم مواقف مشرّفة ضد الاستبداد احتفظوا، في الوقت ذاته، برؤيتهم المعرفية النكوصية تجاه الثورة، من دون أن يكون وعيهم في العمق متماهيا مع الثورة ومفردات الزمن الجديد في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ونقد المقدسات بأشكالها كافة (والدينية منها)، إذ يريد كثيرون منهم إطاحة النظام سياسيا، والإبقاء على المنظومة المعرفية الدينية التي حملته كما هي، غير مدركين أن النظم لا تستمر من دون أن تكون لها حوامل ثقافية ومعرفية ودينية. وهنا لا يصب جهدهم هذا إلا باستبدال مستبدٍّ بمستبدٍّ آخر، بعيدا عن العمل أو القبول بدمقرطة العلاقات التحتية للمجتمع، عبر الاعتراف بالتعدّدية الدينية والثقافية والإثنية والحريات الفردية والزواج المدني، بعيدا عن أي وصايات دينية أو قومية أو سياسية. ومن هنا، قد يكون سعي المجلس الإسلامي السوري إلى تعيين مفت جديد من هذا الباب، حيث يتصارع الطرفان على احتكار تمثيل الإسلام أو المسلمين السنة، كل منهم يقول "أنا الإسلام"، والخاسر الوحيد من هذا الصراع هو الإسلام نفسه، من دون أن يسمح أي منهما للنقد أن يصل إلى جذوره المعرفية المؤسّسة للمنظومة الفكرية التي يحكم ويفكر من خلالها هؤلاء.

887F9940-DD14-4E58-BE81-9009CD932F8D
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري، من أسرة "العربي الجديد"، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية.