حرب أوكرانيا .. انكشاف الغرب أيضاً

حرب أوكرانيا .. انكشاف الغرب أيضاً

12 مارس 2022
+ الخط -

جاء في نهاية مقال سابق للكاتب في "العربي الجديد"، حمل عنوان "معضلة بوتين"، "إن كان من خطيئة ما ارتكبها الغرب في هذا السياق، فهي في تغليبه البعد الأمني على مسألة الديمقراطية التي تتراجع في كل أنحاء العالم اليوم، نتيجة خذلان السياسات الغربية وتواطئها وهي تحصد ثمن هذا في أوكرانيا اليوم". ونظراً إلى أهمية المسألة في هذا الوقت الحسّاس الذي يعيشه مركبنا الأرضي، لا بد من توضيح أن ما يحصل في أوكرانيا اليوم، وإن كانت دكتاتورية الرئيس الروسي بوتين سببه المباشر، فإن ثمّة أسباباً غير مباشرة، وتصل إلى مرتبة الأخطاء الكارثية، كان قد ارتكبها الغرب الليبرالي خلال العقود الأخيرة، وهي على خلاف ما يجري الحديث بشأنه اليوم بكثافة، لا تكمن في الجيوبوليتيك (تمدّد حلف الناتو وعدم مراعاة مسألة الأمن القومي الروسي و...)، بل في البنية العميقة الحاكمة لتفكير العقل الغربي، فيما يتعلّق بماهية عالمنا كله، ومنه جنوب الكرة الأرضية وشرقها، وهي البنية التي ساهم غزو روسيا أوكرانيا في انكشافها وفضحها على الملأ اليوم.

أول هذه المسائل تتجلّى بما يمكن أن يُطلق عليه خيانة الديمقراطية، إذ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، لا سياسياً وجغرافياً فحسب، بل أيضاً فكرياً وإيديولوجياً عبر تهافت البنى الفكرية الشمولية المسفيتة التي حملت المشروع الاشتراكي برمته، خصوصاً في بعده التوتاليتاري الأمني (اعتقال، سجون، انعدام حرية الرأي ..)، لصالح تمدّد أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وانتشارها عالمياً، إذ أضحت (وبفعل من تسارع حركة العولمة والاتصالات وانفتاح العالم على بعضه) منذ تسعينيات القرن الماضي بمثابة مطلب عالمي جمعي أممي، يعمل أهل الشمال على ترسيخه وأهل الجنوب والشرق على الوصول إليه، ليس لأنها إيديولوجية المنتصر كما يرى بعضهم، بقدر ما إنّ التجربة بيّنت للبشرية بأسرها أنها حاجة عالمية ليستقرّ وضع العالم ويخرج من ميراث الحروب نحو أفق السلام، عدا عن أنّ الديمقراطية أفضل النظم التي اخترعها التفكير السياسي رغم كل مثالبها، ولعل المعاناة التي تعيشها الشعوب في ظلّ الأنظمة الشمولية (ونظام بوتين منها) في جنوب الكرة الأرضية وشرقها خير مثال على قوّة (وأحقية) المطالبة بها.

تبقى الديمقراطية أفضل النظم التي اخترعها التفكير السياسي رغم كل مثالبها

هنا، كان المأمول، أو المفترض، أن يعمل الغرب المنتصر بعد تسعينيات القرن الماضي على تعزيز مطالبات بلدان الجنوب والشرق بالديمقراطية ومساعدتها لتخطو خطواتها الأولى نحو برّ الأمان، لكن ما حصل هو العكس تماماً، إذ كان للغرب فيما يتعلّق بالديمقراطية سياستان، واحدة داخلية تختصّ بأهل الشمال والثانية خارجية تختصّ بأهل الجنوب، ففيما يتعلّق بالأولى جرى العمل على تعزيز الديمقراطية في بلدان الشمال وتطويرها، مع الجنوح نحو لبرلةٍ تميل لصالح رأس المال على حساب البعد الاجتماعي، الأمر الذي عزّز الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدان الشمال من جهة، وأظهر حدودها وضعفها وتراجعها من جهة أخرى أيضاً، وهو ما رأينا مؤشّرات عليه في وصول أمثال دونالد ترامب إلى السلطة وصعود اليمين وازياد التفاوت الطبقي وانحسار الحقول السياسية وشعبية الأحزاب السياسية، بالتوازي مع ضمور التفاعل الشعبي معها بعدما تحوّل الحقل السياسي إلى ساحة محتكرةٍ من مجموعة أحزاب لم تعد الفروق كبيرة بين يمينها ويسارها.

مقابل هذا التعزيز للديمقراطية غربياً، جرى التعامل مع باقي الكوكب على أنه باحة خلفية لهذه الديمقراطيات الغربية، وذلك عبر سياسة ازدواجية يعكسها خطابٌ ظاهري يطالب باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما باطنه سياسات يومية تغلّب البعد الأمني ومكافحة الإرهاب ودعم الدكتاتوريات وخطاب المصالح في علاقتها مع دول الجنوب على خطاب حقوق الإنسان والحريات، ولعل السياسة الغربية (وتحديداً الأميركية) خلال الربيع العربي خير مثال على ذلك، حيث لم تعمل أيّة ديمقراطية غربية على تقديم دعم حقيقي لأي شعب لأجل تحقيق ديمقراطيته إلا بالكلام ولغة المصالح. هنا أخطأ الغرب كثيراً، إذ افترض أنه قادر على حماية ديمقراطيته بمعزل عن تمدّد الديمقراطية عالمياً، وهذا التراجع الغربي أو التلكؤ الغربي في دعم الديمقراطية والنضال لجعلها حقاً لكل أهل الكوكب، ساهم في انتعاش الشموليات وسمح للدكتاتوريات العالمية القوية (روسيا، الصين، إيران ..) بالتمدّد وتخريب المنطقة، إلى أن فوجئ الغرب بالغزو الروسي لأوكرانيا.

ينظر الغرب إلى ذاته مركزاً فيما باقي العالم هوامش له

والحقيقة الماثلة هنا أن هذه السياسات الغربية قد تكون ناجمة عن أمريْن: الأول كيفية وعي المركزية الغربية ذاتها، والتي ترى أنها الأصل فيما الباقي فروع، فالذهنية الحاكمة للعقل السياسي الغربي لا تزال في كثير من أسسها قائمةً على افتراض أن شعوبها تستحق الديمقراطية وتقبل بها ضمناً، في حين أن شعوب المعمورة غير مؤهلة للديمقراطية، وهي تتشابك بهذا الوعي مع وعي الدكتاتوريات شعوبها. وعليه، يتم ترك هذه الشعوب "الثانوية" و"الزائدة عن الحاجة" لمصيرها وحروبها التي لا تكون من دون دور دول الشمال فيها أيضاً، وهو ما يوصلنا إلى المسألة الثانية، إلى أنّ الغرب لم يخرج كلياً من ميراث الاستعمار في نظرته إلى منطقتنا ومناطق الجنوب، بل إن مراقبة حركة السياسة الغربية تجاه منطقتنا وحركتها فيما بينها فيما يتعلق بقضايا منطقتنا يبين هذا الأمر، وهذا ما يفسّر تساهل السياسة الغربية مع التدخل الروسي في سورية، وصدامها مع التدخل نفسه في ليبيا، فضلاً عن الاعتراف بالدور الفرنسي الاستعماري في أفريقيا والوصائي في لبنان.

أيضاً، ثمّة مسألة أخرى تتعلق بهذا السياق، وأساءت لمسألة الديمقراطية كثيراً، وهي تغليف المصالح والحروب الغربية في منطقتنا بالدعوة إلى الديمقراطية، وهو ما بات يطلق عليه سخرية "ديمقراطية الدبابة" كما شهدنا في غزو العراق 2003، وفي غزو حلف الناتو ليبيا. وعلى مقربة من هذا، هناك تحالفات الحرب على الإرهاب التي تتشكل هنا وهناك أيضاً، وهي في العمق مجرّد عصا غربية استعمارية لخدمة مصالح السياسات الغربية، الأمر الذي يبيّن حقيقة السياسات الغربية فيما يتعلّق بمسألة نشر الديمقراطية في الجنوب، وهو ما أساء للديمقراطية من جهة، وشكّك بكل الدعوات الصادرة عن الغرب في هذا الشأن من جهة ثانية، وأضعف من مسألة تعزيز الديمقراطية في العالم، وهو تراجع يشهده العالم، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا (مؤشّر الديمقراطية لعام 2021)، الأمر الذي يبيّن الدور الغربي في مسألة تراجع الديمقراطية هذا، وهو تراجعٌ سكت عنه الغرب تحت وطأة نظرة المصالح الضيقة، متوهّماً أنها لن تطاوله إلى أن فوجئ بالحرب على أبوابه.

كان المأمول، أو المفترض، أن يعمل الغرب المنتصر بعد تسعينيات القرن الماضي على تعزيز مطالبات بلدان الجنوب والشرق بالديمقراطية

المسألة الثانية التي كشفتها الحرب الأوكرانية اليوم، وهي ناجمة بهذا القدر أو ذاك عن نظرة المركزية الغربية لذاتها، العنصرية والتفرقة بين البشر بناء على لونهم أو عرقهم أو أصلهم، فعملية فرز البشر على الحدود بين أبيض وأي لون آخر، لا مسمّى لها سوى العنصرية، وليست صادرة إلا عن فكرٍ يؤمن بالعمق بأنّ حياة الأبيض أفضل وأحق وأوْلى وأجدى بالحماية من حياة الآخرين، فدول الشمال التي فتحت حدودها للاجئين الأوكرانيين هي ذاتها من تموّل مخيمات احتجاز اللاجئين في ليبيا، وهي من تدفع إلى تركيا ودول أخرى كي تبقيهم لديها، الأمر الذي يجعل من حقوق الإنسان مجرّد نكتة سخيفة هنا، خصوصاً إذا عرفنا أنّ السياسات الغربية ذاتها لعبت دوراً كبيراً في تخريب هذه البلدان، كما في تدخل "الناتو" في ليبيا وفرنسا في أفريقيا، وأميركا في العراق وتحالفات الحرب على الإرهاب التي تضرب هنا وهناك مخلّفة الضحايا والمجازر من دون حساب أو رقابة (من يحاكم أميركا على مجازرها في العراق والصومال وليبيا واليمن وسورية؟ من يحاكم فرنسا على سياستها في إفريقيا وليبيا؟...). وهذا كله ليس ناجماً إلا من رؤية الغرب إلى ذاته مركزاً فيما باقي العالم هوامش له، وعن هذا تنجم السياسات التي ترى في حقوق الإنسان والديمقراطية حقاً أصيلاً لشعوبها فيما ليست هي كذلك لباقي الكوكب، إلا على مستوى الخطاب الذي انكشف زيفه اليوم بوضوح، وتعامى عنه الغرب، حتى بات مهدّداً في عقر داره من الشموليات التي سكت عنها بنفسه من جهة، ونتاجاً لسياساته الازدواجية من جهة أخرى.

يطرح هذا الواقع أسئلة كثيرة، منها: هل يقدر الغرب على الخروج من رؤيته هذه تجاه أهل الجنوب والشرق؟ خصوصاً أن الأمر بعمق محكومٌ ببعده الاقتصادي الذي يميل صالحه إلى أهل الشمال؟ وهل يمكن لهذه الديمقراطيات الغربية أن تنعم بالرفاه الاقتصادي الذي عرفته، وتستمر باستقرارها لولا الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة بحق دول الجنوب والشرق، ومنع توطين التكنولوجيا وتطوير اقتصاداتها إلا من داخل نمط الهيمنة الغربي؟

هل يمكن لمن يبيع السلاح الذي يحقّق رفاهاً اقتصادياً في الشمال، وحروباً ودكتاتوريات في الجنوب والشرق، أن يكون ديمقراطياً وملتزماً بحقوق الإنسان؟

تتطلب الإجابة عن الأسئلة السابقة قبول الغرب بالاعتراف المتوازي والمتساوي لكل سكان هذه المعمورة بحقوق اقتصادية متوازية (العمل، التأمين الصحي، الغذاء الجيد..)، وهذا لا يمكن أن يكون مع الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة، والتي تميل لصالح دول الشمال، كما تتطلب الاعتراف بأن الديمقراطية حقٌّ لكل سكان الكوكب، بعيداً عن ديمقراطية الدبابة أو الحرب على الإرهاب، وبعيداً عن دعم الدكتاتوريات وحمايتها في مجلس الأمن بحق الفيتو (وهو أمر تستخدمه الدول الخمس كلها ليس روسيا وأميركا فحسب)، وبعيداً عن بيع السلاح وأدوات المراقبة والضبط. هل يمكن لمن يبيع السلاح الذي يحقّق رفاهاً اقتصادياً في الشمال، ومجازر وحروباً ودكتاتوريات في الجنوب والشرق، أن يكون ديمقراطياً وملتزماً بحقوق الإنسان حقاً؟

لا يمكن تحقيق أي نظام عالمي جديد يجرى الحديث عن ولادته اليوم بكثرة من دون النظر إلى الكرة الأرضية بأسرها على قدم المساواة، عبر حق الجميع بالعمل والصحة والتعليم والأمان، وهذا (كما أثبتت التجارب) لا يتحقّق إلا بعولمة الديمقراطية ودمقرطة العالم، وهذا يتطلّب من الغرب التخلّي عن مركزيته وعدم استغلال قضية الديمقراطية في إطار مصالحه الضيقة، والتي يدفع ثمنها اليوم في أوكرانيا. وقد يدفع ثمنها غداً من أمنه وعلى أراضيه، خصوصاً أنّ أكثر من ثلث سكان العالم يعيش في ظل أنظمة دكتاتورية (مؤشّر الديمقراطية) محكومة من دول مثل روسيا والصين وإيران اللاتي تعتبر الداعم الأكبر لدكتاتورياتٍ أخرى، وهي دولٌ يقيم الغرب الديمقراطي علاقاته معها من تحت الطاولة، ويتغاضى عن جرائمها وسجونها وانتهاكها حقوق الإنسان، بل ويبيعها الأسلحة ومعدّات المراقبة، وذلك بحجة محاربة الإرهاب.. وهذا ما يجب إنهاؤه، إن كنا نريد حقاً نظاماً عالمياً جديداً. ما عدا ذلك ليس سوى قديم يعيد إنتاج نفسه. وفي المرة الثانية، ودائماً، على شكل مهزلة، فهل هناك شيء أشد مهزلةً مما يحصل الآن، دولة تغزو دولة أخرى في القرن الواحد والعشرين، لنحصد مليوناً ونصف مليون لاجئ خلال أسبوع؟!

887F9940-DD14-4E58-BE81-9009CD932F8D
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري، من أسرة "العربي الجديد"، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية.