ماذا حدث لجلال أمين؟

ماذا حدث لجلال أمين؟

30 يونيو 2016

جلال أمين .. لا يرى التخلص من الاستبداد أولوية

+ الخط -
تصدمك مشاركة الكاتب المعروف وأستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية، جلال أمين، في لقاء عقده عبد الفتاح السيسي في مارس/ آذار الماضي مع "الكتاب والمثقفين" المصريين؟ فكيف لمؤلف كتاب "ماذا حدث للمصريين؟"، أحد أكثر الكتب السياسية النقدية مبيعاً في أواخر عهد حسني مبارك أن يعرض خدماته على السلطة المصرية القائمة، على الرغم مما ترتكبه من الانتهاكات؟ كيف لمن يكتب، في مقالاته، بشكل مستمر، عن استقلال الإرادة الوطنية ورفض التبعية والانتصار للفقراء وإعادة بناء الاقتصاد ورفض الرجعية، أن يحضر في بلاط نظام معروف بعلاقاته القوية بإسرائيل وبانتهاكاته الجسيمة للحريات وبنشر فكر الاستبداد؟
يدفعك هذا كله إلى التدقيق أكثر في مواقف المؤلف المعروف، في محاولة لفهمها، ولمراجعة مواقف النخبة الفكرية المصرية منذ انقلاب يوليو 2013، لعلك تفهم أين يكمن العجز الديمقراطي في مصر بالضبط، وموقف النخبة الثقافية مما نحن فيه. ولهذا، شرعت في قراءة كل ما كتبه جلال أمين من مقالات في جريدة الشروق المصرية منذ يونيو/ حزيران 2013 وحتى نهاية 2015، بالإضافة إلى مشاهدة حواراتٍ تلفزيونية قليلة شارك فيها أمين بعد الانقلاب.
والملاحظ أن أمين من الداعمين لما تسمى بثورة 30 يونيو وما تلاها من انقلاب عسكري، حيث يرى أنه من المدينين للسيسي لتخليصه البلاد من "حكم الإخوان المسلمين" الذين تبنوا فكراً ينتمي للعصور الوسطى. لم يعارض كذلك الحكم العسكري وتولي السيسي الرئاسة، وأبدى، مرّاتٍ عدم حماسته للديمقراطية كنظام حكم. وقبل التسرع في الحكم على المواقف السابقة، يجب الرجوع خطوتين إلى الخلف، ومحاولة فهم منطق جلال أمين الذي دفعه إلى اتخاذ المواقف السابقة، على الرغم مما عرف عنه من نقد نظامي أنور السادات ومبارك ودعم ثورة يناير.
يرى جلال أمين أن حل مشكلات مصر يتوقف على عاملين أساسيين، أولهما التحرّر من الإرادة الخارجية، وثانيهما تحقيق قدرٍ من العدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي، فالرجل يرى أن جزءاً كبيراً من فشل مصر في التقدم يرجع إلى الضغوط المفروضة عليها من الخارج، فالعالم، وفقا له، تتحكّم فيها دول وشركات ومصالح كبرى، مشغولة بتعظيم مكاسبها على حساب الفقراء والدول الفقيرة. وقد حولت هذه الكيانات الثرية الديمقراطية في الغرب نفسه إلى سلعةٍ تشترى في الانتخابات، من خلال التحكم في وسائل الإعلام والمال السياسي، ولا بأس في أن تحاول تلك الدول أن تستخدم الديمقراطية ودعاويها في الدول العربية، لتأجيج عدم الاستقرار والصراعات والحروب التي تعود ثمارها، في النهاية، إلى الكيانات الغربية في صورة سلاحٍ يتم بيعه، ومناطق نفوذ يعاد تقسيمها.
لذا، يرفض جلال أمين الانسياق وراء دعاوى الديمقراطية الغربية، ويراها زائفة، وأن ظروف
العالم العربي لا تسمح، فبلادنا فقيرة، وهي في أمسّ الحاجة لنظام حكم قويٍّ يفرض النظام والقانون، ويتمتع بالوطنية والوعي، ويعمل على انتشال البلاد مما هي فيه. كما أنه من دعاة الدولة القوية والتخطيط المركزي وإعادة توزيع الثروة والدخل، ويرى نشر التعليم والثقافة وتطوير مستوى حياة الناس الاجتماعي ضرورةً تسبق الديمقراطية، وتساعد على التخلص من فكر الجماعات الدينية الرجعي، من وجهة نظره. لذا دعم " 30 يونيو" و"3 يوليو" باعتبارهما تخلصاً من حكم محمد مرسي والإخوان المسلمين، والذي لم يحقق إنجازاً يُذكر، ورأى أن تحرّك الجيش لإطاحة مرسي مشكور، وإن يحمل في طيّاته سمات الثورة، باعتباره استجابةً لمطالب شعبية، وسمات الانقلاب باعتباره تحرّكاً عسكرياً أطاح رأس السلطة. وقد شهدت الفترة التالية للانقلاب العسكري مشاركةً ملحوظةً لجلال أمين في الحوارات التلفزيونية، على الرغم من ندرة مشاركاته التلفزيونية قبل ذلك، ويبدو أن أمين شعر بأن "30 يونيو" كانت فرصة لتولي شباب ثورة يناير والقوى المدنية المعادية لحكم التيار الديني الحكم، وهي القوى السياسية الأقرب إلى قلبه وتوجهاته، لكنه سرعان ما عبّر عن تحفظاته على قانون الطوارئ، وعلى اعتقال شباب الثورة، وعلى تهميش شخصيات "وطنية" شاركت في "30 يونيو".
ودائماً ما يكرّر جلال أمين، في مقالاته، مطالبته الناس بعدم التسرّع في الحكم، لأن حركة التاريخ ليس من السهل فهمها، فالانقلابات العسكرية، مثلاً، قد تأتي بنتائج إيجابية، كما حدث في 1952. وقد يأتي حكم المدنيين بنتائج سلبية، كما قبل 1952. وعلى العكس، قد يبدأ عهد بحرية وينتهي بالاستبداد. ويكرّر جلال أمين، أيضاً، فكرة غياب القدر الكافي من المعلومات للحكم على ما يحدث في مصر، حيث أكد، مثلاً، أنه لا يعرف القوى الحقيقية التي حكمت مصر في العام الأول للانقلاب العسكري ولا نياتها الحقيقية التي دفعتها إلى التصرف بهذا الشكل.
ليست مشكلتنا معارضة جلال أمين حاكماً أو دعمه آخر، ليست مشاركته في "30 يونيو" أو دعمه ترشح السيسي. همنا الأساسي موقف أمين من قضية الديمقراطية والحريات وسبل تقدم مصر:
أولاً: صدمنا دعم جلال أمين فض اعتصام "الإخوان المسلمين" في 14 أغسطس/ آب 2014، والذي وقع ضحيته مئات، ووصفته مؤسسات حقوقية دولية مذبحةً قد ترتقي إلى جريمة ضد الإنسانية، ما يثير أسئلة كثيرة عن استعداد جلال أمين للتغاضي عن انتهاكات حقوقية هائلة، من أجل تحقيق الأهداف السياسية التي يحلم بها، كالدولة القوية المستقلة والتنمية والعدالة الاجتماعية. على المنوال نفسه، دعم جلال أمين، في أحد حواراته التلفزيونية، إعلان الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وهو إعلان دانته منظماتٌ حقوقيةٌ دولية كذلك، ناهيك عن عدم صحته القانونية، كما ذكر رئيس الوزراء المصري، حازم الببلاوي، الذي أقره في تصريحات لاحقة.
ثانياً: أبدى جلال أمين نقده قانون التظاهر، وسجن بعض شباب الثورة، واستبعاد بعض الشخصيات المشاركة في أحداث "30 يونيو" من الحكم. وهنا، يبدو أنه يتعامل بازدواجية وانتهازية سياسية، لا تليق بكاتبٍ كبير مثله، ما يُلقي ظلالاً سلبية هائلة على قضيةٍ أساسيةٍ في فكر جلال أمين، وهي نقده أنماط التدين السائدة في المجتمع المصري، خلال العقود الأخيرة، والتي يراها رجعيةً ووافدة، فهل نقد أمين "الإخوان" والسلفيين نابع من موقف فلسفي عميق، يطالب بالحقوق والحريات والانفتاح والتعدّدية، أم أنها خصومةٌ سياسيةٌ ترحب بانتهاك حقوقهم لمصلحة فريقه السياسي، بكل ما يعنيه ذلك من انتهازيةٍ سياسيةٍ وأخلاقية؟
ثالثاً: لا يبدو، من متابعة كتابات جلال أمين وتصريحاته، أنه يتبنى أي تعريف واضح أو جاد للديمقراطية أو للتحول الديمقراطي، فجلال أمين، بوصفه أستاذ اقتصاد، يطالب دائماً بوضع خطط معلنة للتحول الاقتصادي، لكنه عندما يتحدّث عن الديمقراطية يكتفي بالحديث عن قضايا جزئية، مثل السيطرة على وسائل الإعلام والإعلانات والتبرعات السياسية. وبهذا، تسقط منه قضايا أساسية من متطلبات الديمقراطية كبناء مؤسسات سياسية، كالأحزاب وحيادية مؤسسات الدولة وبناء مؤسسات المجتمع المدني وبنية إعلامية واقتصادية مساعدة. وفي النهاية، يمكن القول إن جلال أمين ينتمي لجيل قديم من اليسار، مشغول بقضايا أساسية، كمكافحة التبعية الأجنبية وتحقيق التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، لكنه، في الوقت نفسه، مشغولٌ بعداء مستمر مع التيارات الدينية، ومستعد للتغاضي عن انتهاكاتٍ جسيمةٍ للحقوق والحريات، وخصوصاً في حق خصومه السياسيين، ولا يمتلك فكراً واضحاً لكيفية إحلال الديمقراطية أو التخلص من الاستبداد، وهي أفكار ومطالب لا يراها أولوية.