تعقيب... أوهام الفصل "الإجرائي" بين السياسي والدعوي

تعقيب... أوهام الفصل "الإجرائي" بين السياسي والدعوي

19 مايو 2016

الغنوشي يتحدث للصحافة بالذكرى34 لحركة النهضة (6يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
يعالج مقالا خليل العناني "إعادة تأسيس حركة النهضة التونسية"، وأنور الجمعاوي "حركة النهضة... جدل الدّعوي والسّياسي"، في "العربي الجديد"، يومي 17 و18 مايو/ أيار الجاري، مسألة الفصل بين الدعوي والسياسي عند حركة النهضة، باعتبارها نقطة تحول مهمة في مسيرة الحركة التي ستعقد مؤتمرها العاشر غداً في العاصمة تونس، 20 مايو/أيار الجاري، قبل استكمال بقية أشغال المؤتمر في الحمامات في اليومين التاليين.
إنه المؤتمر الذي قد يقود مرة أخرى، الشيخ راشد الغنوشي إلى ترؤس الحركة، وبالتالي، لن تحصل مفاجآت تذكر بخصوص قيادة الحركة، باستثناء ربما صعود وجوه جديدة وشابة إلى القيادة التنفيذية، لا سيما مع تكتم عن وجود ترشحاتٍ تنافس الغنوشي على رئاسة الحركة من عدمه. لكن الملف الذي سيكون محل تجاذبات بين المؤتمرين هو إدارة المشروع، أي الفصل بين الدعوي والسياسي والتمييز بينهما. من غير شك، سيكون الحسم في تجدّد الحركة، عبر الفصل بين الدعوي والحزبي، أبرز ورقة عمل سياسية، ستناقش داخل المؤتمر. ويتنازع شقان داخل "النهضة" مسألة انفتاح الحركة وتحولها من حركةٍ دعويةٍ إلى حزبٍ سياسيٍّ مدنيٍّ، يتبنى الأطروحات السياسية الوضعية، مع المحافظة على الهوية النهضوية، أو الإبقاء على مرجعية الحركة الإسلامية ومنابعها الفكرية والأدبيات التي تبنتها منذ لحظة التأسيس الأولى.
يتبنى مقالا خليل العناني وأنور الجمعاوي أطروحة حركة النهضة التي تسوّق، في مؤتمرها العاشر، مسألة التصديق على التفاهمات السياسية، والاتفاق على الصيغ الأيديولوجية التبريرية التي ترضي مختلف أجنحة الحركة، بخصوص الفصل بين الدعوي والسياسي، بما يمكّن "النهضة" من أن تذهب، اليوم، في اتجاهٍ أكثر انفتاحاً ومدنيةً، وتصبح حزباً عصرياً متخصصاً في شؤون الدولة، وغير متمسكٍ بالإرث الأيديولوجي الإخواني الذي وَرَّثَ حركة النهضة جراحاً وانكساراتٍ كثيرة على مدى تاريخها، في المعارضة وفي تجربة الحكم. فهل إن إعلان الطلاق الرسمي بين الواجهة السياسية العصرية للحزب وحدائقه الدعوية الخلفيّة التي تُصر على المضي في "حرب الهوية" تلك التي "بشّر" الغنوشي بنهايتها (وإن كان الطلاق العلني في تأويلات بعضهم لا يُنهي حتماً المُعاشرة) الذي حظي بصدارة الاهتمام من وسائل الإعلام المحلية والعربية، يُمَّثِلُ نصراً مُبِيناً للديمقراطية، سيتحقق بمجرد قراراتٍ حول الفصل بين الدعوي والسياسي في إدارة مشروع النهضة، وبصورةٍ يحجب قضايا جوهرية وخطيرة.
في الواقع، هناك رأي عام كبير في تونس، لدى النخب والأحزاب السياسية، ومكونات المجتمع المدني الحديث، يرى أن فكرة الفصل بين السياسي والدعوي التي تنبني عليها فلسفة رئيس "النهضة"، راشد الغنوشي، القائمة على معادلة براغماتيّة، لا تخرج من سياق الفصل الإجرائي الشكلي والقانوني لا غير، إنه الفصل الذي يشبه الاختصاص في الطب. فالحزب يختص بالمسائل السياسية فحسب، بينما يترك المجال الدعوي تقوم به "الجمعيات الدينية" التي تنشط في المجتمع المدني. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول إن فكرة فصل المشروع الإسلامي عن الحزب السياسي التي سيتبناها المؤتمرالعاشر لحركة النهضة الذي سيقرّ التخلي النهائي عن المنهج الأصولي، وإعلان الحركة حزباً سياسيا مدنياً يتفاعل إيجابياً مع العلمانية، مرجعيته الدستور والقيم الكونية، ليس فيها فصل بين الدين والدولة والسياسة، لا تدخل في باب المراجعات الفكرية التي قد تسمح لحركة النهضة بالقطع نهائياً مع ماضيها الأيديولوجي الإخواني القائم على فلسفة أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، وليس في باب الاعتدال والوسطية، فالفصل بين المشروع الإسلامي والسياسي يعتبر من استراتيجيات أو تكتيكات العمل المرحلي، إنما هو هروب إلى الأمام، خوفاً من الملاحقات والتورّط أكثر في الإخفاق، لا سيما بعد أن خسر "الإخوان المسلمون" في مصر كرسي الحكم، وتعاملوا مع خارطة إقصائهم براديكاليةٍ على وشك أن تصنفهم دولياً ضمن الحركات الإرهابية، وبعد أن اصطدمت حركة النهضة بمقاومةٍ شرسةٍ من المجتمع المدني التونسي العلماني والمنفتح على الحداثة الغربية، والذي يدافع بقوة عن بقاء أنموذج المجتمع المعتدل والوسطي، والمحافظة على طبيعة الدولة المدنية في تونس.
سواء أكانت فكرة الفصل بين السياسي والدعوي تعكس المخاض الذي يعيشه حزب الغنوشي
من "انقلاب ذاتي" من الداخل تتزعمه القيادة التاريخية للحزب، وتمثل عملية جراحةٍ تجميليّة تنكريّة على الواجهة الإخوانية المُتداعية للحركة، أم هي مجرد مناورة تاريخيّة يحاول، من خلالها الغنوشي، امتصاص صدمة المتغيرات الدولية والإقليميّة، ويُرجى منها مشروع أسلمة الدولة الذي يبقى متحفزاً في انتظار "التمكين"، فإن القضية ليست في الفصل بين الدعوي والسياسي، بل في الفصل بين الديني والسياسي، وهذا هو معيار الحداثة، بل الشرط الضروري للانتقال من المجتمع القديم الذي كان الدين يمثل عموده الفقري وأفقه المعرفي شبه الوحيد إلى مجتمعٍ يقوم على أساس المواطنة، وهذا ما يجب أن يجيب عليه المؤتمر العاشر لحركة النهضة، من خلال المسائل التالية:
أولا: أن تقوم حركة النهضة بمراجعة نقدية وجذرية لمرجعيتها الأيديولوجية في مؤتمرها العاشر، لجهة أن تتحرّر كلياً من الوثيقة-العقدة التي تحمل عنوانها "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي" التي تم تبنيها في المؤتمر التأسيسي للحركة في 6 يونيو/ حزيران 1981، ويعتبرها الجميع دستور حركة النهضة إلى يومنا هذا، وهي وثيقة مهمة جداً، تمثل المرجعية الأيديولوجية لحركة النهضة، حيث تنساب كل التصورات والأفكار والأحكام من العقيدة الإسلامية. لا نفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لأن الانحراف عن أيٍّ منهما يخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا.
ثانياً: أن تفصل حركة النهضة في مؤتمرها العاشر بين المجالين السياسي والديني، كما ينص على ذلك القانون والدستور في تونس، وليس التمايز بين المجالين كما جاء في حديث الغنوشي، حتى تستطيع الحركة أن تتحول إلى حزبٍ مدني، يعمل تحت سقف قيم الجمهورية العلمانية، ويقرّ باحترام حرية العقيدة، وحرية الممارسة الدينية أو عدمها، أي حرية اللاتديّن. فالأمر يتصل، هنا، بحرية الضمير التي لا يكون لحرية التعبير معنىً بدونها. والاستقواء بالمقدّس الديني، في حلّ المسائل الدنيوية، هو تهميش للحجة العقلية، وكبح للديمقراطية، ونقيض لها، فالإيمان مسألة شخصية، وموقف فردي بين الإنسان وخالقه. وبصفتها كذلك، هي لا تخضع لإلزام خارجي.
ثالثاً: يرى المتمسكون ببناء دولة وطنية ديمقراطية تعددية في تونس، وفي عموم العالم العربي، أن هذا هو جوهر الموضوع، المتمثل في الفصل بين المجالين، السياسي والديني، فالدين لله والوطن للجميع، لأنّ الديني هو مجال المقدّس المتعالي، البعيد عن التغيّر، في حين أن السياسي هو مجال البدء، والانتهاء مجال التغيير، وبالتالي، مجال التاريخ، في حين لا يعترف المقدّس بالتغيير، لأنّه لا يستمدّ حركته إلاّ ممن هو فوق التاريخ. ولن تكون حركة النهضة مقبولة تونسيًا ودوليًا، إلا عندما تخرج من عباءة الأيديولوجيا الإسلامية الإخوانية، وتتخلى عن السجال العنيد مع النظام العلماني القائم في تونس، وتدرك أن العلمانية ليست عداءً للإسلام، بل هي السبيل الأمثل إلى تجاوز المشكلات الأيديولوجية والمذهبية، من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد الشعب التونسي، وهي الحل الأنجع لتفادي غرق الدولة في المشكلات الطائفية وانتهاك حقوق الإنسان، وهي وحدها القادرة على تعزيز التجربة الديمقراطية، وتذليل الخلافات السياسية والعقائدية بين مختلف العائلات الأيديولوجية والسياسية الكبيرة الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية، لأنها تفسح لها في المجال للانصراف إلى حل المشكلات التي تواجه المجتمع التونسي، مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإرساء العدالة الاجتماعية، لا سيما أن العلمانية ليست صنوَ الإلحاد أو نبذ الدين، وكما أيضاً أن الديمقراطية والعلمانية متلازمتان، لا تقوم قائمة لإحداهما من غير الأخرى.


E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة