البحث عن قاطرة للمبادرة الفرنسية

البحث عن قاطرة للمبادرة الفرنسية

23 ابريل 2016
+ الخط -
على هامش بؤر الحروب والصراعات في منطقتنا، وإلى جانب مشاركتها الحثيثة في التحالف الدولي ضد داعش، تقدمت فرنسا بمبادرة خاصة بها من أجل حل القضية الفلسطينية، حفّزت رئيس السلطة الوطنية، محمود عباس، على معاودة تحركاته. ويأتي التحرك الفرنسي بديلاً عن الاعتراف بفلسطين دولة. وتقوم المبادرة على أن يتقدّم الجانب الفرنسي بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، يتضمن بضعة مبادئ، منها إنهاء الاحتلال، وتثبيت حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وتبادل أراض، وتسمية القدس عاصمة لدولتين، وعقد مؤتمر دولي يرعى التسوية ويتبناها. .. ولتحقيق ذلك، يتم إنشاء مجموعة دعم تضم أعضاء مجلس الأمن الدائمين، ودولاً أوروبية وعربية ومنظماتٍ دولية، وتقترح فرنسا تحركاً على مرحلتين. تنطلق الأولى بلقاء دولي على مستوى وزاري، من دون الإسرائيليين والفلسطينيين، ليعقد في المرحلة الثانية مؤتمر دولي الصيف المقبل، بحضور طرفي النزاع، على أن يكون مفهوماً أن مشروع هذا القرار يمثل الفلسطينيين.
وكان عباس قد أكد، الأسبوع الماضي، في مقابلة صحافية، رغبته في تفعيل المبادرة الفرنسية، وخصوصاً في ما يتعلق بعقد مؤتمر دولي لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
على الجانب الفلسطيني، لم يتم بحث المبادرة بصورة متخصصة، واتخاذ موقف متكامل منها، وبادر الرئيس عباس من جانبه بتحرّك أوروبي، وقد زار بالفعل ألمانيا وفرنسا وروسيا. ولقي ترحيباً، كما لقي السلوك الإسرائيلي بالمواظبة على الاستيطان نقداً صريحاً من ألمانيا. ولا شك في أن العالم بات ينوء بالمعضلة الفلسطينية التي لا تجد حلاً، بسب النهج التوسعي الذي يقيم عليه اليمين الإسرائيلي. وبهذا، باتت التسوية الفلسطينية الاسرائيلية حلماً يُداعب الأذهان المكدودة، ويمكن للتسوية العتيدة أن تخدم، على المديين المتوسط والبعيد، الحرب على الإرهاب، وهي القضية التي تستأثر باهتمام الغرب.
ثمّة على الجانب الفلسطيني من يتحفظ على المبادرة لأنها ناقصة (لا تلحظ وقف الاستيطان في أثناء مراحل تطبيقها)، وثمّة من يشكك في النيات الأوروبية والغربية، ويهتف لنهج المقاومة، حتى لو كانت الظروف الذاتية والبيئة السياسية لا تسمحان بممارسة الكفاح المسلح إلا في حدود ضيقة.
على الجانب الإسرائيلي، فكالعادة، أي اهتمام دولي بالقضية سرعان ما يجري تصويره في تل أبيب على أنه بمنزلة تدخل خارجي مرفوض، بينما المطلوب "مفاوضات مباشرة ثنائية بغير شروط مسبقة". وحسب بنيامين نتنياهو، فإن مثل هذه المبادرة تشجع عباس على مزيد من التشدّد، إنها "تحفّز الفلسطينيين على عدم قبول أية تسوية في المفاوضات تؤدي إلى التوصل إلى حل نهائي"، وعباس يريد كل شيء أو لا شيء، حسب تشخيص نتنياهو، وهذا الأخير يُراهن على التنكيل الدائم، وعلى الزمن، وعلى تغيير معالم الأرض، بحيث لا تكون هناك موضوعياً فرصة في المستقبل لأية تسوية يستعيد فيها الفلسطينيون أرضهم التي سلبها الاحتلال والاستيطان منهم. هذا النهج الإسرائيلي ثابت، فالمطلوب هو إقصاء العالم كله، وإقصاء الجميع، بمن فيهم الأميركيون، عن أي اهتمام جدّي بتسوية الصراع، فالأفضل والأثمن صهيونياً هو الاستفراد بالفلسطينيين: قضم أرضهم، يوما تلو يوم، والتنكيل بهم مدار الساعة. وخلال ذلك، دعوتهم إلى مفاوضاتٍ بهلوانيةٍ لا يتوقف الاحتلال خلالها عن عمليات الضم والتوسع عبر بناء الجدار والغزو الاستيطاني.
في واقع الأمر، مضى أكثر من سنةٍ على بدء إطلاق المبادرة الفرنسية، وقد عرض خطوطاً
عريضة لها مع نتنياهو، في يونيو/ حزيران الماضي، المسؤول الفرنسي، لوران فابيوس، حين كان يتقلد وزارة الخارجية. وقد طغت، وما زالت تطغى، حروب المنطقة وصراعاتها وصعود داعش على كل اهتمام بأي شأن آخر، وكانت القضية الفلسطينية ضحيةً لهذه التطورات، وهذه الأخيرة مثلت فرصةً ذهبيةً لحكومة الاحتلال، برئاسة نتنياهو، لمواصلة نهمها التوسعي والاستيطاني والعنصري بغير رقيب أو حسيب.. وطالما انهمكت الدبلوماسية الفرنسية في الملف الشرق أوسطي، ففي عام 1982، دافع الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، أمام البرلمان الإسرائيلي عن مبدأ قيام الدولة الفلسطينية. وكانت دول "المجموعة الأوروبية" آنذاك قد شدّدت في "بيان البندقية" عام 1980 على ضرورة إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات السلام. وسعياً إلى التوازن وحصر بؤر التوتر، جدّدت باريس الاهتمام بمبادرتها، فيما يجدّد الإسرائيليون رفضهم أية مبادرة دولية أو خارجية، فالأفضل، بالنسبة لهم، أن لا ينشغل أي طرف في العالم بالقضية الفلسطينية، وحتى بهضبة الجولان السورية المحتلة، وقد عمد نتنياهو، أخيراً، لعقد جلسة لمجلس وزرائه في الهضبة، مُصرحاً بالمناسبة إن الجولان ستبقى جزءاً من إسرائيل إلى الأبد، ولن يتم التفاوض حولها مستقبلاً.
وبينما تلقى المبادرة قبولاً واسعاً في العالم، فإن الولايات المتحدة تواظب، كالعادة، على اتخاذ مواقف رمادية من مبادراتٍ كهذه، فلا تؤيد المبادرة، ولا ترفضها، فيما تشدّد باريس على أنها لن تتقدّم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، إلا اذا ضمنت أن المشروع لن يُجابه بفيتو أميركي. والحال أن واشنطن تركّز جل اهتمامها على التطورات الملتهبة في الشرق الأوسط، ولا تُلقي بالاً للوضع في الأراضي المحتلة. وسبق لها، قبل أسابيع، أن دانت، على لسان الوزير جون كيري، ما سمتها موجة العنف، من دون أن تتقدم بأية رؤيةٍ لكسر الجمود الذي يفيد منه المحتلون حصراً.
والواضح أن الجانب العربي لا يبدي، في هذه الآونة، حماسةً للانشغال بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، فالأولوية الطاغية، وإلى إشعار آخر، هي محاربة الإرهاب، وما ينجم عن ذلك من متطلباتٍ وإجراءات، وقد تحدث مسؤولون إسرائيليون، أخيراً، عن تعاون استخباراتي عربي إسرائيلي، لا سابق له في مجال مكافحة الإرهاب، من دون أن يعني ذلك، بالطبع، تعاملاً عربياً سلبياً مع المبادرة الفرنسية.
من أجل كسر الجمود وتجديد الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ومن أجل وضع قاطرةٍ لتحريك مبادراتٍ سياسيةٍ جديةٍ، كالمبادرة الفرنسية، من واجب الجانب الفلسطيني الكف عن احتجاز الحركة الشعبية، وعدم الوقوف في وجه الاحتجاجات المدنية، وخصوصاً الاحتجاج على الجدار والاستيطان واستباحة الأقصى. وبموازاة ذلك، تنشيط العمل الجماعي بين الفصائل والقوى الوطنية، والحد من الانقسام بين السلطة في رام الله وتلك التي في غزة. من واجب حركة فتح، كما حركة حماس، عدم التقليل من أهمية العامل الذاتي في تحسين ظروف الصراع، وما يتطلبه ذلك من عملٍ جماعي، ومن تحرير المبادرات الشعبية من الوصاية.