لماذا فقد الرئيس اللغة؟

لماذا فقد الرئيس اللغة؟

01 مارس 2016
+ الخط -
هل خانت اللغة رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي؟ أم أن الرجل فاقد لهذه اللغة، يحاول إيصال الرسالة التي تعتمل في ذهنه، ويجهد لإيصالها إلى أبناء شعبه، وإلى غيره من المتلقين، لكنه يعجز؟ أم أنه ليس لدى هذا الجنرال ما يتحدّث عنه، فتخرج خطاباته خاليةً من أية رسالة واضحة المعالم، مفهومتها، ويأتي الكلام عنده من فراغٍ، ليذهب إلى فراغ وكأنه لم يكن؟ وتسعى فلا تجد تفسيراً للغة الخطابات التي يتلوها السيسي، بين الفينة والأخرى، سوى أنه لم يقتنع هو نفسه بعد، أنه قد نُصِّبَ في ليلة انقلابٍ غاب عنها القمر رئيساً لأكبر بلد عربي، لديه من المقدرات، ومن حجم الأعمال التي تنتظر الإنجاز، ما لا يتسع وقت أي رئيسٍ لمتابعته، فما بالك بالحديث عنه.
ولكن، وفي الحديث عن اللغة التي يستخدمها أي رئيسٍ في خطاباته، فهي اللغة الأكثر حساسيةً والأشد خطورةً، وهي التي عليها أن تكون دقيقة العبارات، مدروسة المضامين أكثر من غيرها، لاحتمالية حملها وتحميلها تأويلات، وخضوعها لتفسيراتٍ، هي في الأصل ضرورية ومتوقعة، حين تصدر من موقعٍ مثل موقع الرئيس. إلا أن ذلك كله يتكسر حين يحط أي رئيس كان من لغته، فيلجأ بعضهم إلى استخدام لغة الصحافة والإعلام اليومي، في وقتٍ تنتظر الصحافة أقواله، لكي تتبناها وتبني لغتها على أساسها. أما أن يستخدم رئيس الدولة لغة الكلام اليومي، أو ما يسميها بعضهم "لغة الشارع"، فذلك دمار للغة التي من المفترض بصاحب المقام الكبير أن يسمو بها، لكي تسمو معه ومعها الجماهير، وهي التي تنتظر لغته ومفرداته وتعابيره، كي تتبناها وتعيد إنتاجها في لغتها.
ومن هنا، كان لجميع الرؤساء كتّابُ خطاباتٍ ولغويون يكونون جزءاً أساسياً من فريقهم الاستشاري. لكن، يبدو أن عبد الفتاح السيسي لا يعترف بعلماء اللغة، ولا بخبراء فن الخطابة، ولا يتقبل أن تُكتب له الخطابات ليتلوها. فكيف، وهو الزعيم الكبير، أن يلجأ إلى موظفٍ بسيط لتدقيق عباراته وتشكيل كلماته؟ أليس هو أعلى من اللغة ومن علمائها؟ فحين لا يجد نفسه غير متمكّن من الفصحى، لا ضير أن يلجأ إلى العامية استسهالاً للأمر، غير أن الأخيرة لم تطاوعه كذلك. وفي الوقت الذي قيل إن السيسي يتمثل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأشاع أتباعُه أنه ناصر الجديد، ونشرت صورته عندما كان صغيراً وهو يسلم عليه، نرى أن الرجل قطع مع أسلوب عبد الناصر، ولم يتمثل طرق تواصله مع الجماهير، أو بالأحرى لم يتمكّن. فلم نره يتبنى لغته الخطابية التي لم يضاهه فيها أحد، وإن حاول بعضهم تمثله. بل حتى إنه لم يتمثل أنور السادات الذي كان يعتمد على قراءة الخطابات التي كانت تُصاغ بلغة جيدة، ولا حسني مبارك أيضاً الذي كان يصر على جزالة اللغة وقوتها.

ومن ناحية أخرى، نجد أن السيسي، حين يتحدّث عن مواجهة الأخطار التي تتعرّض لها بلاده، تكون اللغة مطواعةً بين يديه، فيجد العبارات ويسترسل في الكلام، ويتجسّد الحزم في كلامه وفي حركات يديه وتعابير وجهه. أما الأخطار فليست سوى تلك المظاهرات التي ينظمها طلابٌ أو عمالٌ من المحتجين على انقلابه، أو على أوضاعهم المعيشية. وحين يتحدث عن الإنجازات، تكون اللغة هزيلة، فيفقد العبارات، حتى لا يكاد يجدها، وتتخبط حركات اليدين، وتضيع تعابير الوجه. ويجد نفسه ضائعاً، إلى درجة أنه يعرض نفسه للبيع، إن كان من إمكانيةٍ لبيعه، كما خرج علينا في كلمته، قبل أيام في فعاليات إطلاق استراتيجية مصر المستدامة بعنوان "رؤية مصر 2030". وظهر في الصورة قوياً، حين أخبر الحاضرين عن طموحاته وقدراته على إقامة المشاريع، فقال: "إنتو فاكرين نفسكو ضعاف ولا إيه؟، مصر، دى دولة كبيرة تقدر تعمل كل حاجة". ثم وبعد لحظات، وفي الخطاب نفسه، ناقض نفسه، حين ظهر ضعيفًا إلى حد البكاء عند الحديث عن المصادر وقلّتها، مطالباً الشعب المصري المسكين التبرعَ لصالح البلاد، فقال: "لو كل واحد صبّح على مصر بجنيه من الموبايل كل يوم هنجمع 4 مليارات في السنة". فأي اقتصاد هذا، وأية استراتيجية عرجاء تلك التي يجري الكلام حولها، والتي لا تتحقق سوى عبر التبرع من الهاتف النقال على شاكلة التبرّع لمراكز إيواء الأيتام؟ ومن الذي سـ "يصبّح على مصر بجنيه من الموبايل" خاصته؟ هل هم المعتقلون والمغيَّبون، أم العاطلون عن العمل، أم المُفقَرون وهم على رأس عملهم؟ كان حرياً بالرئيس، من أجل دعم تلك الاستراتيجية، استعادة أموال مصر المنهوبة، والتي أصبحت بأيدي السماسرة والتجار، شركاء حكام مصر في سرقتها وتهريبها. أو كان حرياً به على الأقل، قبل عرض نفسه للبيع، أن يبيع سجادة مشروع السكن الاجتماعي الحمراء ذات طول الأربعة كيلومترات، قبل أن تمر سيارته عليها، وتحويل ثمنها المقدر بمئتي ألف دولار إلى صندوق "تحيا مصر"، ما دام الحديث يجري هنا عن البحث عن مصادر غير عادية للتمويل.
يقول إعلاميون ومحللون لخطابات السيسي، من الموالين له، إنه يجعلها بلغة البسطاء والفقراء من الشعب، كي يفهموها وتكون أقرب إليهم. فهل للبسطاء والفقراء لغة خاصة بهم، تختلف عن لغة بقية القوم؟ وهل لغة تحمل عبارات من قبيل: "إنتو مش عارفين أنكم نور عينينا ولا إيه؟"، أو: "يا رب ظروفنا صعبة وحضرتك تساعدنا" لغة بسطاء أو حتى لغة أحد ما؟ خفي عن هؤلاء أن البسطاء والفقراء يستطيعون فهم لغتهم التي هي الفصحى، فهم ليسوا أجانب في بلادهم، حتى يظهروهم جاهلين للغتهم. وإلا كيف استطاعوا فهم لغة عبد الناصر الفصحى والعالية والتفاعل معها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؟ أو فهم اللغة العربية الفصحى التي كانت تدعوهم إلى نصرة فلسطين، فيستجيبون لها ويلبون النداء بأشكال عدة؟ وفات هؤلاء المحللين وأولئك المتكلمين أن اللغة الأقرب إلى قلوب الناس هي التي تعالج مشكلاتهم وتستجيب لآمالهم، وليست التي تخوض في المجهول، فلا قائلها يوقن ما يقول، ولا متلقيها يفهم ما يُراد.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.