التجربة التونسية في المصالحة الوطنية

التجربة التونسية في المصالحة الوطنية

21 نوفمبر 2016

بن سدرين تفتتح في تونس جلسات الاستماع للضحايا (17/11/2016/الأناضول)

+ الخط -
عرفت بلدان عديدة في أثناء فترات انتقالها الديمقراطي جهداً لتحقيق مصالحاتٍ وطنية، من أجل مجاوزة الماضي، بمخلفاته الدامية، وبما شهده من تجارب مأساوية، وانتهاكات لحقوق الإنسان. فالمصالحة الوطنية الشاملة هي إحدى لوازم أي انتقال ديمقراطي سليم من خلال هيئات دستورية، بعيدا عن منطق الانتقام والثأر والتشفّي. وإذا كانت تجارب قد حقّقت نجاحاتٍ لا يمكن إنكارها، فإن دولاً أخرى لم تكن محاولاتها للمصالحة الوطنية غير مناسبةٍ لتصفية الحساب مع الخصوم، من دون مراعاة الشروط والضوابط الضرورية التي تجعلها تحقق أهدافها الكبرى، ونعني بها تحقيق مزيدٍ من التماسك المجتمعي، وبناء دولة الحقوق والحريات خارج كل الحسابات السياسية الضيقة التي قد تحوّل المضطَهَدين السابقين إلى جلادين لخصومهم. 
وفي المنطقة العربية، عرف المغرب أولى التجارب في هذا المجال، حيث تأسّست هيئة الإنصاف والمصالحة، بداية من يناير/ كانون الثاني 2003، وكان من مهامها الأساسية إثبات نوعية جسامة الانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان ومداها، و"الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات"، ومن ثم "التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالضحايا". وبغض النظر عن مُخرجات هذه الهيئة، بالنظر إلى صعوبة إيجاد حالةٍ من الرضا التام على عملها، فقد شكلت محاولة جدية لإنجاز مصالحةٍ فعليةٍ، ومجاوزة كل أشكال الانتهاكات الماضية. وفي المقابل، كانت التجربة العراقية تسير عكس المطلوب منها، فقد رفعت الهيئة المنوط بها مراجعة الماضي شعار "اجتثاث البعث"، وحملت تسميةً غير عادلة، وهي "الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث"، قبل أن تتحوّل إلى "هيئة المساءلة والعدالة" حالياً، وقد تعاملت هذه الهيئة بمنطق انتقامي واضح. ومما ورد في التقرير الصادر عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية، في توصيف عملها، أن "عملية اجتثاث البعث كانت مدفوعةً بدوافع حزبية إلى
حد كبير، إلى حد غير ضروري، كما كانت عملية خلافيةً ومعيبةً وغير فعالة"، بمعنى أنها قد أفضت إلى عكس المقصود منها، فقد تحولت إلى جهاز يخلق عداواتٍ بين الفئات الاجتماعية، ويؤجج حالات الصراع الطائفي والسياسي، أكثر مما يدفع نحو المصالحة والحوار المجتمعي المثمر.
وعرفت تونس بعد الثورة جهداً واضحاً نحو إيجاد هيئاتٍ دستورية، من أجل إعادة الاعتبار لضحايا انتهاك حقوق الإنسان قبل الثورة. وكان أن تشكلت هيئة الحقيقة والكرامة، بوصفها كياناً قانونياً، من مهامه تلقي شهادات الضحايا، والبحث في التعويض المناسب لهم. والأهم الدفع نحو منع تكرار مثل هذه الانتهاكات تحت أي مبرّر. وفي هذا السياق، بدأت الهيئة تنظيم جلساتٍ علنيةٍ، يتحدث فيها عدد من ضحايا الاستبداد في مراحل الحكم المختلفة التي مرت بها البلاد قبل ثورة 2011. وتم اختيار نماذج متعددة لمواطنين تعرّضوا لمظالم قاسية، ومن خلفيات متنوعة.
وحاولت الهيئة أن تقدّم صورة شاملة لتنوع ضحايا زمن الطغيان، في اختيارها المتحدثين في جلسات الاستماع العلنية، بداية من حضور مناضلين سياسيين، ينتمون إلى حساسياتٍ سياسية وعائلات فكرية مختلفة، بالإضافة إلى مواطنين عاديين وشرائح اجتماعية متنوعة، شملت نساء ورجالاً، طلبة وتلاميذ، ناشطين سياسيين ومنتمين إلى منظماتٍ اجتماعية، والقاسم المشترك بين الجميع هو تعرّضهم إلى مظالم زمن الاستبداد. ومثلما أكدت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، في كلمتها الافتتاحية لجلسات الاستماع، أن نظام الحكم السابق لم يكن عادلاً في شيء، قدر عدله في توزيع الظلم والجور على جميع شرائح الشعب. كما ستشمل جلسات الاستماع تقديم شهاداتٍ لمرتكبي الانتهاكات الحقوقية، أو المتورطين في قضايا فساد مالي، حيث ينص قانون العدالة الانتقالية على ضرورة مشاركة المتورّطين في الانتهاكات ممن قدّموا ملفات للاستفادة من آلية التحكيم والمصالحة، وإلزامهم بتقديم اعتذار علني للشعب التونسي، على خلفية الممارسات التي اقترفوها بحق الوطن.
وعلى الرغم من تعرّض الهيئة لحملات من التشكيك من بعض القوى والأجهزة الإعلامية القريبة من منظومة الحكم السابق، فقد ظلت ثابتةً على موقفها في ضرورة تسوية الملفات الحقوقية، وكشف المظالم والانتهاكات التي تعرّض لها الشعب التونسي أكثر من ستة عقود، حيث تتولى الهيئة معالجة أكثر من 60 ألف ملف حقوقي، تمتد بين سنتي 1955 و2013، وهي المرحلة التي عُهد للهيئة بمعالجة كل ملفاتها والبحث فيها.
وتتراوح القضايا موضوع البحث بين قضايا التعذيب وقضايا الفساد وانتهاكات متنوعة لحقوق المواطنين في مجالات مختلفة. وعلى الرغم من المعوّقات التي تعرّضت لها الهيئة، خصوصاً بعد وصول حزب نداء تونس إلى السلطة، وارتفاع صوت بعض القوى المحسوبة على منظومة الاستبداد، فإن انطلاق جلسات الاستماع العلنية تشكل منعطفاً تاريخياً مهماً، بما يمثله من رمزيةٍ عاليةٍ في الكشف عن بنية النظام الاستبدادي الذي كان مهيمناً على البلاد، وبث روح الوعي بين المواطنين، لمنع عودة آليات التسلط، وحفظ الذاكرة الجماعية، بما يساهم في ترسيخ مسار الانتقال الديمقراطي، وتثبيت منظومة الحقوق والحريات.
المصالحة الوطنية بمعناها الحقيقي شرط لازم لكل بناء ديمقراطي سليم، بعيدا عن كل حسابات سياسية ضيقة، أو تحالفات حزبية مرحلية. وإذا كان تنازل الضحايا عن حقهم في معاقبة الجلادين يظل ممكناً من الناحية السياسية، فإنه من غير المنطقي التغاضي عن كشف الحقيقة، وتحميل كل طرفٍ مسؤوليته من ناحيةٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ، وإلزامهم بالاعتذار للمجتمع. ومما يُذكر، في هذا السياق، أن الرئيس البوسني الراحل، علي عزت بيغوفيتش، عندما طرح عليه سؤال: هل سيكون هناك أعمال انتقامية ضد الذين أساؤوا إليه وإلى الشعب زمن الحكم الشيوعي؟ فأجاب "سامحتهم كسياسي، ولكني لم أسامحهم كإنسان".

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.