تونس.. قوة التكتلات المهنية

تونس.. قوة التكتلات المهنية

23 أكتوبر 2016

مظاهرة في تونس ضد موازنة 2017 التقشفية (15اكتوبر/2016/الأناضول)

+ الخط -
أثار مشروع الميزانية لعام 2017 الذي أحاله مجلس الوزراء في تونس، أخيراً، على مجلس النواب، ردود فعلٍ تتسم عموماً، على الرغم من بعض التباينات، برفض ما جاء فيه، وخصوصا في ما تعلق بمسألة الجباية، وهو مشروعٌ جاء تحت عنوان كبير، أخفقت الدولة في ترويجه وتحقيق أوسع قدر من الإجماع حوله، "مزيد من التقشف، مزيد من الضرائب"، في سياقٍ اقتصادي واجتماعي كل مؤشراته سلبية، إذ تغرق تونس في المديونية، وربما هي على حافة الإفلاس. وقد صدرت ردود الأفعال هذه عن توجّهين:
توجه أول يرى الدولة تسير في فلك صندوق النقد الدولي، وبقية المنظمات المالية الدولية والمانحين التي استغلت أزمة البلاد الخانقة، وغدت تملي على الدولة التونسية سياساتها الحالية الحاثة على التفويت فيما تبقى من مؤسسات عمومية وبيعها إلى القطاع الخاص وإثقال المواطن بعبء جبائي، لا قدرة له على تحمله. ويتوقع هذا التوجه أيضاً أن هذه السياسة هي التي ستدفع البلاد إلى الكارثة، ولن تنجو، إن أصرّت الحكومة على اتباع هذا النهج، من انفجارات اجتماعية خطيرة في الأشهر المقبلة، ستكون هذه المرة عدميةً ومدمرةً، لأنه لا أفق سياسياً واضحاً لها، فالنخبة السياسية أثبتت فشلها، وانخرطت في صراعاتٍ حزبيةٍ عبثية، فضلا عن خطر الإرهاب، خصوصاً بعد أن حسمت، أو تكاد، معركة سرت. لذلك، يرفض أصحاب هذا التوجه جملةً وتفصيلا مشروع الميزانية، ويعتبرونه خضوعاً لابتزازات تلك الدوائر، الليبريالية المتوحشّة كما يصفونها، ولعل أبرز صوت لهذا الموقف، هو الجبهة الشعبية ذات التوجهات اليسارية، والتي وإن كان حضورها محتشماً عددياً في مجلس النواب، فإن لها امتدادات حاسمة وراسخة أحياناً في الحركة العمالية، والمجتمع المدني عموماً.
يعبّر التوجه الثاني عن تحفظات منظمات مهنية ونقابية تعتبر نفسها المتضرّر الأكبر من سياسة التعبئة الجبائية التي تقوم بها الدولة، ولعل أبرز من يعبر عن هذا التوجّه الاتحاد العام التونسي للشغل، فقد هدّدت هياكله، قبل أيام، بإعلان الإضراب العام، وتحديداً في قطاع الوظيفة العمومية، في حال أقدمت الحكومة على تجميد الزيادات في الأجور، في نقض ما تم الاتفاق حوله سابقاً، أو مزيد من فرض الضرائب على مداخيل أجراء هذا القطاع.
وقد جاء أبرز رد فعلٍ في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إثر قرار الهيئة الوطنية للمحامين (هيكل نقابي يضم محامي البلاد، نحو ثمانية آلاف) الدخول في "يوم غضب"، وتنفيذ إضراب ليوم، شل أغلب المحاكم التونسية. ويتوقع أن تتواصل ردود الأفعال المشابهة الصادرة عن بقية الهياكل النقابية والتكتلات المهنية الممثلة للصيادلة والمهندسين والأطباء الممارسين هذه المهن الحرة والناشطين في القطاع الخاص عموماً، وقد صدرت عنهم السنة الفارطة مواقف مماثلة.
لا تحمل وصفات المنظمات الدولية معجزةً أو سراً، وقد نختلف في تفاصيلها. ولكن، لا مناص من بعضها على الأقل، لعل أهمها مزيد من تعبئة الموارد الجبائية التي تبدو ضعيفةً حالياً وغير عادلة، فخزينة الدولة شبه فارغة، فضلاً على تلكؤ أطرافٍ أجنبيةٍ عديدة عن منح تونس ما تحتاجه في انتقالها الديمقراطي الصعب، خصوصاً مع مخاوف من صرفها على الأجور تحديداً، ونفقات أخرى لا علاقة لها بالتنمية أو إيجاد الثروة.
لا أحد يشكّ في أن العدالة الاجتماعية في دولة حديثة وديمقراطية تقتضي عدالةً جبائيةً، حيث يتقاسم المواطنون أعباء الضرائب، وفق معايير موضوعية عادلة، تتناسب ومداخيلهم، فالضريبة من علامات المواطنة في الدول الديمقراطية، أما التهرّب الضريبي فهو جريمة وإخلال بقواعد العيش المشترك وواجبات المواطنة.
لذلك كله، تبدو، للوهلة الأولى، الإجراءات المزمع الدخول في تنفيذها متمتعةً بقدر مهم من المشروعية، غير أن الدولة ترتبك وترتعش أيديها في تنفيد مثل هذه الإصلاحات، لعدة أسباب، لعل أهمها: قوة التكتلات المهنية والنقابية التي تدافع بشراسة عن حقوق منخرطيها على قاعدة "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما"، خصوصاً إذا كانت الدولة خصمها في هذه الحالة. اعتماد قانون المالية الجديد، وحتى السياسات المتبعة معايير متباينة، وغير عادلة في احتساب الضريبة الموظفة على المداخيل، ما جعل بعضهم يتهم الدولة بأنها "تعاقب البقرات العجاف وتسمن البقرات السّمان". افتقاد المشروعية الأخلاقية للإصلاح الجبائي، حتى ولو كانت غايته نبيلة، أي العدالة الجبائية والبحث عن التوازنات المالية قبل أن تفلس البلاد، ما لم يكن مصحوباً بحزمةٍ من الإصلاحات الأخرى، لعل أهمها محاربة رؤوس الفساد ومقاومة التهريب.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.