تونس.. حين يطل التعذيب مجدداً

تونس.. حين يطل التعذيب مجدداً

06 سبتمبر 2015

تونسيون يتظاهرون ضد التعذيب أمام وزارة العدل (15 أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
لم يعد من الممكن تجاهل تصاعد ممارسات التعذيب في تونس، وربما توحي مؤشرات ملتقطة، هنا وهناك، أنه عائد بشكل ممنهج. فالبيان الأخير الذي أمضت عليه أكثر من سبع جمعيات محسوبة على المجتمع المدني ذي التوجه اليساري أو الليبرالي (من دون غرابة وقد انقسم المجتمع المدني، أيضاً، إلى نصفين)، ناهيك عن تواتر مشاهد العنف الحادة التي واجهت بها قوات الأمن مختلف المظاهرات التي جرت، الأسبوع الماضي، ونجمت عنها أضرار متفاوتة. وقد تكون بسبب حالة الغضب، بعد أن نقلت وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى وسائل الإعلام الرسمية، ومنها التلفزة الوطنية، بعضاً من ذلك، قد دفعت رئيس الحكومة بالمسارعة إلى استقبال وفد عن اتحاد الفلاحين، محاولة منه في تطويق الغضب المتزايد من تلك الممارسات. 
تحدث مفارقة غريبة، إذ كيف يمكن أن تستمر ممارسات التعذيب في بلاد يفترض أنها تطوي قريباً سنتها الخامسة من التحول الديمقراطي، فعلى خلاف كل الانتظارات، ها هي تعود تلك الممارسات بشكل متصاعد، ونحن بين تاريخين،7 نوفمبر (ذكرى انقلاب بن علي) و17 ديسمبر (ذكرى ثورة الحرية والكرامة).

هناك أكثر من مؤشر على إحيائنا، في تونس، الذكرى الخامسة لاندلاع الثورة، قريباً، في مناخات خريف بن علي: المصالحة مع طبقته من رأسمالية طفيلية، اعتاشت من المال العام، وسرقت خيرات البلاد، عودة بعض أشكال عديدة من الزبونية السياسية، وأخيراً الحنين إلى التعذيب.
لا أحد يشك في أن التعذيب تراجع بعيْد الثورة، لكن من المؤكد، أيضاً، أنه تواصل، بشكل أو بآخر، مع كل الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة، لكن جل المؤشرات تدل على أن ممارسته ارتفعت منذ تولي الحكومة الحالية، وذلك بحسب ما أوردته المنظمات الوطنية والدولية التي تنشط في مجال حقوق الإنسان ومكافحة التعذيب. هل يعني ذلك أن التعذيب كان يُمارس بتشجيع وتواطؤ تلك الحكومات، بما فيها الحالية. لا أحد يستطيع إثبات ذلك في غياب أي تحقيق جدي ومحايد حول المسألة، فحتى اللجان التي عينها البرلمان، في حالات عديدة، أو تعهدت بها وزارة الداخلية، أو وزارة العدل، لم تؤد إلى نتائج فعلية، ولم تنجز تقاريرها، فضلاً على أنها كانت عرضة هي بدورها إلى تجاذبات حادة، أعاقت عملها، نظراً لتركيبتها التي حملت، مثل سفينة نوح، من كل زوجين اثنين. ولعلنا ما زلنا نتذكر ما حف باللجنة التي تشكلت، أخيراً، إثر اختطاف مواطنين (عرفوا بخلية القيروان) من أمام المحكمة، أكثر من مرة، مباشرة بعد أن يطلق القضاء سراحهم. سيكون الأمر مقبولاً إلى حد ما، فطبيعة الانتقال الديمقراطي تقبل أن يختفي التعذيب تدريجياً، ولكن سيبدو الأمر مريباً، إذا ذهب التعذيب في خط مناقض للتحول الديموقراطي، أي ارتفعت نسبه وغدا ممارسة ممنهجة.

لا يمكن، في اعتقادي، فصل التعذيب عن موجات العنف الاجتماعي التي تعصف بالفضاءات العامة منذ عقود، بشكل مخيف على غرار الشارع، الطريق العام، الملاعب، وحتى الفضاء المشترك على غرار المقاهي والمتاجر وغيرها. فحينما يتم التطبيع مع هذا العنف، سيكون التعذيب أمراً عادياً، لا يستفز حواسنا ولا يثير ضمائرنا. في لغتنا المتداولة، هناك احتفاء غريب بالعنف والعنيفين، وازدراء لكل هادئ ووديع.
لكن، على الرغم من إقرارنا بالترابط الوثيق بين العنف والتعذيب، علينا تمييز العنف عما يجاوره من أشكال الاعتداء على الآخرين، فالتعذيب ليس مجرد عنف طارئ ناجم عن رد فعل أمام مثير عارض، بل هو خلفية ذهنية وترصد وبناء استراتيجي فيه تقصد الإذلال المتعمد والتشفي لغايات عديدة، وأحياناً لمجرد إشباع نزوات مرضية. يمارس التعذيب في وضعيات متفاوتة السلطة بين الجلاد والضحية. لا يمكن، في اعتقادي، أن نعالج التعذيب بمعزل عن هذا العنف الاجتماعي المعمم.
لدينا، في تونس، في نطاق مكافحة التعذيب ومناهضته مكاسب مهمة، فلنا دستور رائد في هذا، وهو ينص، صراحةً، على أن "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم". ولنا، أيضاً، الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب التي علينا تفعيلها وإيكالها إلى كفاءات وطنية مستقلة ونزيهة، حتى نتجنب ما وقع لهيئة الحقيقة والكرامة. ولكن لنا، أيضاً، ما يخالف ذلك ترسانة من القوانين الحالية التي مازالت لا تمنح ضمانات كافية لملاحقة من يمارس التعذيب، ما يعطيهم حصانة.
ولكن، تظل لدينا قناعة أن بعض النقابات الأمنية، بثقافتها وممارساتها الحالية التي تعتبر نفسها فوق المساءلة وفوق الدولة أحياناً، وممارسات الضغط العديدة على القضاة لا يمكن أن ينكرها جاحد تشكل جيوب ممانعة، وقد شاهدنا في تفاخر غريب محاصرة المحاكم ومكاتب القضاة في استعراض للعضلات، لا يليق بأمن جمهوري ولا بقضاء عادل. دافع بعضها عن مثل هذه الممارسات، وربما أخذت من الإرهاب ذريعة لذلك كله في ديماغوجية شعبوية.
يقع العبء الأكبر في مكافحة التعذيب على المجتمع المدني الذي ما زال يكيل بمكيالين عادة، وربما كانت ردة فعله الأخيرة مؤشراً إيجابياً على تجاوز قراءة التعذيب، وفق شبكة أيديولوجية محضة. فحين يكون التعذيب الممارس على "متدين"، مهما كانت التهمة أو الشبهة، مباحاً، بل مطلوباً ومحموداً، ويكون التعذيب الممارس على التقدمي جريمة دولة، تكون المسافة التي تفصلنا عن القطع مع التعذيب بطول سنوات ضوئية. رأينا كيف تغافل البيان الختامي، لمؤتمر المثقفين التونسيين لمناهضة الإرهاب، عن مجرد التعريج على أهمية التزام الدولة بحماية حقوق المواطنين في هذه الحرب المشروعة والواجبة، حتى لا يكون الإرهاب تعلة لعودة ممارسة التعذيب بشكل ممنهج. تماماً كما يستغل بعضهم قانون الطوارئ لمنع التظاهر والاعتداء على حق دستوري. ربما يراد إيجاد بيئة مواتية، لا لعودة هذه الممارسات، بل تحويلها إلى مطلب اجتماعي. وكنا قد شاهدنا، في الأشهر الأخيرة، حالات متكررة من الاعتداء العلني على المواطنين، تمت تحت وابل من التصفيق.
ستكون أولى شروط التعافي من مرض التعذيب الذي ينزع منا إنسانيتنا ويجعل أجسادنا وأرواحنا قطعاً من وحوش إصلاح حقيقي لأجهزة الأمن، وهو مشروع تعثر وتأخر أكثر من اللزوم. ولكن نعول كثيراً على إصلاح التعليم، أيضاً، الذي سيعطي لحرمة الجسد قداسة قيمية. أما التشريعات فتظل تتويجاً لا غنى عنه، لكنها غير كافية، حين تأتي منفردة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.