كيف نثق في التاريخ؟

كيف نثق في التاريخ؟

14 ابريل 2015

تظاهرة ضد الانقلاب العسكري في مصر (14أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

كانت مظاهرات التنديد بغزو العراق، في 20 و21 مارس/آذار 2003، بداية اهتمامي بالسياسة والشأن العام، وكانت مشاركتي عفوية، مثل عشرات آلاف الشباب الذين تحركوا وتظاهروا في ميدان التحرير، رفضا للبلطجة الأميركية واحتلال العراق. بعد تلك المظاهرات، بدأت البحث عن المجموعات السياسية، والتعرف عليها في الجامعة، ثم بدأت التعرف على الأحزاب بعد الجامعة، لكني لم أجد فارقاً كبيراً بينها، على الرغم من اختلاف الشعارات، خصوصا أن جميع الأحزاب المصرية اتسمت بالجمود والملل وعدم النشاط.

لفت نظري، في عام 2003، "الاشتراكيون الثوريون" في الجامعة، خصوصاً مع خطابهم الراديكالي الشجاع، ونشاطهم اليومي المكثف في الجامعة، فبعد غزو العراق، كان هناك غضب كبير ضد حسني مبارك ونظامه، خصوصاً مع اتضاح تحالفاته المشبوهة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، ودوره الكبير في مساعدة القوات الأميركية لضرب العراق. وكان لي صديق في الجامعة لا يهتم بالسياسة، ويراها مضيعة للوقت وحرثاً في البحر، و"حاجة تودي في داهية وتودي ورا الشمس"، وكان هذا الاعتقاد سائداً، قبل ثورة 25 يناير، ثم في هذه الأيام أيضاً. كان الصديق يحاول أن يبعدني عن السياسة، كأي مواطن صالح "عارف مصلحته"، وأن أركز في مذاكرتي، وعملي بعد ذلك، خصوصاً أني، وقتها، كنت في سنة البكالوريوس في كلية الهندسة، حيث مشروع التخرج والاستعداد لمناقشته. كنت أدخل في جدال يومي مع صديقي الذي كان، مثل معظم المصريين في ذلك الوقت، يرى أنه لا أمل في التغيير، وليس في الإمكان أفضل مما نحن فيه، وأن مبارك حرامي وبشع. كان ذلك قبل انضمامي لحركة كفاية في بدايات 2005. ولكن، لفت نظري أنه كثيراً ما كان يكذّب أي كتب تاريخية، أو أي معلومات تعلمناها في المدارس، وكان لا يثق في أي مراجع تاريخية، وكان
عند الاختلاف، وعند استشهادي بكتب أو مقالات أو شهادات تاريخية أو ما تعلمناه في المدارس، يقول لي إن هذا المؤرخ ربما يكذب، أو يحاول إرضاء السلطة في ذلك الوقت.

اختلفت معه كثيرا في ذلك، فقد كنت أثق في روايات تاريخية ورسمية كثيرة، ولم أكن أعلم أن هناك، دائماً، قراءات تاريخية مختلفة، وروايات ثانية وثالثة لكل حدث. ومع الوقت، اتضح لي أن صديقي كان محقاً في عدم ثقته في الكتابات التاريخية، فمثلاً، اكتشفنا، أخيراً، أنه حتى الروايات عن حرب أكتوبر 1973 ليست كلها دقيقة، فهناك رواية الفريق سعد الدين الشاذلي، والقصص التي تغيظ وتحرق الدم عن تخبط في اتخاذ القرارات بعد العبور، والتأخر في تطوير الهجوم، حتى استطاعت إسرائيل امتصاص الصدمة بعد 21 أكتوبر، ثم علمنا، أخيراً، من كتابات محمد حسنين هيكل أن أنور السادات لم يكن يرغب في هزيمة إسرائيل، أو تحرير الأرض بالحرب، وأنه كان فقط يريد تحريك الوضع في 6 أكتوبر، حتى يستطيع أن يفاوض بعد ذلك.

دائماً هناك رواية ثانية وثالثة للتاريخ. عندما كنا أطفالاً قالوا لنا، وعلمونا في المدارس، إن الملك فاروق كان فاسداً ومستبداً وسفاحاً، وأن مصر كانت في انهيار دائم قبل 1952. وعندما كبرنا، عرفنا أن فاروق لم يكن بكل ذلك الفساد الذي صوروه، وأن الفساد قبل 1952 أقل مما كان بعد حركة الضباط الذين طردوا فاروق، وأن مصر تعاني، الآن، من غياب السياسة والأحزاب، وضعف النخبة السياسية والقانونية، بسبب قرارات تدمير السياسة، وإلغاء الأحزاب، وتأميم القضاء، وتكميم الأفواه، في الخمسينيات، إلى أن حدثت هزيمة 1967 .

عرفنا، أيضاً، أن أحمد عرابي مات كمداً وحزناً، عندما عاد من المنفى، كان الناس والعامة يسبونه في الشوارع، ويقولون له أيها الخائن العميل، وأن أبناءه، وأحفاده، كانوا على وشك التسول، وأن الصحف والكتب ظلت، أكثر من 40 عاما بعد فشل الثورة العرابية، تتحدث أن عرابي خائن وعميل، وجلب الخراب والاحتلال لمصر، بعد ما فعله ضد الخديوي توفيق. والآن، تتحدث عشرات الكتب والمقالات، كذباً وزوراً، أن ثورة 25 يناير كانت مؤامرة خارجية، وأن حركة 6 ابريل عميلة تهدف لخراب مصر، وأن عبد الفتاح السيسي منقذ الكون والبشرية.

يزوّرون التاريخ، ونحن لا نزال أحياء، ولم تمض سوى سنوات قليلة على الحدث، لكن القوي من يكتب التاريخ، من لديه المال والإعلام والسلاح وموارد الدولة، من يستطيع أن يحبس أي صوت مخالف بأي تهمة.

الآن، وأنا لا أزال حياً في زنزانة معتمة، أقرأ وأسمع أنه كانت لدي قصور، مع أن الجميع يعلم أنني أعيش في شقة 70 متراً، وأنني تلقيت تمويلاً خارجياً، لتخريب مصر، فيما ليس لدي مال ولا رصيد في البنوك، ولم أتلق مليماً أو أي تمويل من أي جهة. الآن، تزور السلطة العسكرية التي تملك موارد الدولة، والمال، والإعلام، الأحداث التي عشناها جميعاً، تحاول تزوير وعي الأجيال القادمة بالأكاذيب. وللأسف، ليس لنا حق الرد، يزوّرون التاريخ، ولا نزال أحياء، فكيف نثق في أي رواية تاريخية، أو أي تراث، أو أي كلام عن أي شيء.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017