في ذكرى الثورات العربية

في ذكرى الثورات العربية

02 فبراير 2015

متظاهرات يمنيات إبان الثورة (21 فبراير/2011/الأناضول)

+ الخط -

يعد جدلاً حيوياً، الدائر في الذكرى الرابعة للثورات العربية بشأن مآلات هذه الثورات ونتائجها، بعد مهمة إسقاط الأنظمة في بعض البلدان العربية، ومن ثم تنامي المشكلات الوطنية في أكثر من منطقة عربية، وإن كان قاسياً في بعض جوانبه، لكنه يسهم في تأصيل ظاهرة قد لا تتكرر، بعفويتها وشعبويتها، في المنظور القريب. ومن البديهي القول إن هذه الثورات لم تحقق النزر القليل من مطالب المجتمعات العربية في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، بل جعلتها تدفع ضريبة باهظة جراء محاولتها الجريئة في التغيير.

وإذ يذهب دارسون ومحللون كثيرون لتجربة ثورات الربيع العربي إلى القول إن الواقع العربي الحالي، بأزماته العميقة والمتعددة، أصبح أسوأ مما عليه قبل ربيع الثورات، وهذا منطقي في ضوء ما يحدث في الساحة السياسية العربية من حروب طائفية، واقتتال أهلي، وإعادة إنتاج التطرف الإسلامي، بشكله الأعنف، في تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". لكن، بتقديري، من الإنصاف، أيضاً، القول إنه، ولأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، تتعامل هذه المجتمعات مع مشكلاتها مباشرة، فلأول مرة تقريباً يتعامل المواطنون مع قضايا مثل الديمقراطية والدولة، من دون وسيط سياسي، أو نخبوي. وهذه من إيجابيات ثورات الربيع العربي؛ ويبدو أنه، إضافة إلى تمترس قوى وطنية خلف مصالح سياسية دون الوطنية، وبسبب قلة خبرة هذه المجتمعات في التعامل المباشر مع هكذا قضايا، نتج لدينا هذا الوضع المرتبك، وجعل الاحتمالات مفتوحة على سيناريوهات مظلمة، ومآلات قاسية.

ليست السيناريوهات المظلمة التي نشهدها اليوم، في أكثر من بلد عربي، وليدة مرحلة ما بعد الثورات، أو ما اصطلح على تسميتها المرحلة الانتقالية، وإنما نتيجة منطقية لسنوات طويلة من هدم وعي المجتمعات في كيفية تعاطيها مع مشكلاتها البنيوية والسياسية والثقافية والاقتصادية، واعتبار هذه المشكلات طارئة، وتنبع من خارج هذه المجتمعات، وليس من داخلها، فلعقود طويلة، غيبت الأنظمة القمعية هذه المجتمعات من ملامسة جوهر الاحتقانات التي تشكلت في عمقها، وعملت على ترحيل المشكلات الإثنية والعرقية والطائفية والدينية، وعدم معالجتها في إطار هوية وطنية جامعة، بل وشيطنة كل القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة لها. وفي المقابل، لم يختلف أداء القوى السياسية العربية، يسارية وقومية وإسلامية، عن أداء هذه الأنظمة، سواء التي عارضتها، أو كانت جزءًا منها، فالقوى السياسية العربية لم تتمكن، عبر تاريخها النضالي، من قيادة المجتمعات من خارج منطلق مصالحها السياسية، أو هوياتها الأيديولوجية. لذا، ظلت هذه الاحتقانات حبيسة، حتى جاءت اللحظة التاريخية التي صعدت فيها إلى السطح، وكانت ثورات الربيع اللحظة الفارقة، بدراماتيكيتها وزخمها وسلبياتها وإيجابياتها.

وهكذا، لم تكن مصر، في الذكرى الرابعة من ثورة 25 يناير، أسوأ مما كانت عليه قبل سقوط نظام حسني مبارك، وما يحدث، اليوم، من سيطرة النظام العسكري وقمع الحريات وقتل المتظاهرين في ميدان التحرير يعد تجلياً للمشكلات الحبيسة في عمق المجتمع المصري، واستعاضته عن فكرة التحرر الكامل بوهم الأمان والاستقرار؛ ولعل ما يجري دورة طبيعية سينهض فيها المجتمع المصري، لاستكمال شروط تحرره، ليس فقط انتصاراً لمقتل الشابة شيماء الصباغ وسندس، ولآلاف من المتظاهرين والمعتقلين، وإنما انتصاراً لأهداف ثورة يناير التي بلا شك تشكل الجامع الوطني المصري.

وفي سياق آخر، يبدو المشهد الليبي كارثياً من تصاعد العنف والانقسامات العشائرية والمناطقية، لكنه نتيجة الأزمات الباطنية في المجتمع الليبي التي رحّلها نظام معمر القذافي طوال حكمه، والتي على الشعب الليبي معالجتها لإعادة بناء الهوية الوطنية. ولا تنبئ إدارة الدولة في ليبيا عبر "مجلس عسكري"، إلا عن هشاشة كيان الدولة وقابليتها للتفكك أكثر، وهو نموذج يبدو أن اليمن ستسير فيه على خطى ليبيا.

لم تشذ اليمن في الذكرى الرابعة من ثورة 11 فبراير عن تلك السيناريوهات التي دمغت مرحلة ما بعد الثورات، فلم يكن السقوط السريع لمرتكزات الدولة اليمنية، عبر سيطرة المليشيات المسلحة التابعة لجماعة الحوثي، وتنامي تنظيم القاعدة، ومبادرات تقسيم اليمن وتشظيه، إلا دليلاً على عمق التشوهات التي كان يعاني منها المجتمع اليمني.

في حين يعيش المجتمع السوري، في ربيعه الرابع، خريفاً دموياً، يدفع كلفته السوريون كل يوم، بآلاف من القتلى والنازحين والمهجرين، وهي فاتورة باهظة لعقود طويلة من استبداد نظام شمولي، غيّب المجتمع السوري، وصادر خياراته في التحرر، فتبدو الثورة السورية، اليوم، الصورة الأكثر تعبيراً عن عمق الاختلالات المكبوتة في مجتمعات ثورات الربيع العربي.

ربما تونس، ولأسباب موضوعية، هي أفضل نموذج للربيع العربي، وقد حقق المجتمع التونسي، حتى الآن، ما يمكن اعتبارها نجاة من سيناريوهات ما بعد ثورات الربيع العربي. ما يعود إلى عوامل خبرة المجتمع ونضج تصوره لمفهوم الديمقراطية والدولة، إضافة إلى مستوى اقتصادي وتعليمي أفضل لدى التونسيين من المجتمعات الأخرى للربيع العربي.

ولا تسيء دورة العنف، أو دورات العمى التي تشهدها الساحة العربية، في الذكرى الرابعة لثورات الربيع، إلى فعل الثورة ومطالب التغيير، ولا تقلل من مشروعية أحلام المجتمعات العربية في التحرر، بل تؤكد أن ما نعيشه، اليوم، ليس سوى طفح الاحتقانات الاجتماعية والسياسية والدينية والطائفية، المتراكمة ربما منذ نشوء الدولة الوطنية في العالم العربي، وعلينا معالجتها ضمن الأدوات السياسية والسلمية، فالحضارة الإنسانية لا تملك إلا أن تمضي قدماً، مع اختلالاتها وإنجازاتها وتعثرها، بين حين وآخر؛ فمهما كانت المرحلة الراهنة صعبة ومفصلية في تاريخ مجتمعات الربيع العربي، إلا أنها مرحلة تصويبية، لا بد أن تُعاش، ولا يمكن ترحيلها بما تحويه من مشكلاتٍ، يتوجب مواجهتها بمشاريع جامعة، والتمتع بالقدرة على دفع كلفة ذلك.

في الذكرى الرابعة لثورات الربيع العربي، لن نسعى إلى التنكيل بأنفسنا، كما يريد بعضهم، حتى لو من باب الجدل، واختلاف تقييم التجربة. ومهما كانت التداعيات سوداوية، فإن الحفاظ على الأمل هو الخيار الوحيد في واقع يكرس فيه الانهزام النفسي، كذاكرة حية للمواطن العربي. الأمل وحده من ألهم تلك الجموع الهادرة في كل ميادين الحرية وساحاتها، لتفجر الثورات، ومطالبتها بحقها الطبيعي في الحياة، حتى لو كانت "ثورات بلا ثوار"، كما كتب الرفيق فواز طرابلسي.