مع غزة وضد غزة

مع غزة وضد غزة

19 نوفمبر 2015
+ الخط -
احتلت غزة مكانة كبيرة في الصراع العربي الإسرائيلي منذ النكبة. والمدينة التي لم تفقد أهميتها منذ الحضارة الكنعانية التي كانت أحد أهم مدنها حتى الانتداب البريطاني لفلسطين أخذت أهمية أكبر، حين فجأة صارت مركزاً لتدفق اللاجئين الفلسطينيين من قرى الساحل والجنوب الفلسطينيين ومدنهما. ومع تراجع فعالية المدن التقليدية الكبرى، خصوصاً يافا، وخضوعها لعمليات النهب والقتل والطرد والإحلال، وجدت غزة نفسها مركزاً للفعل الوطني، وتحديداً لمحاولات هؤلاء اللاجئين العودة إلى قراهم ومدنهم، والاشتباك مع جيش الدولة التي بُنيت على أنقاض أحلامهم وذكرياتهم. من هنا، وجدت المقاومة في غزة مبكرة، بل ربما هي لم تتوقف في غزة منذ اليوم الذي حدثت فيه النكبة.
تشكلت حكومة عموم فلسطين في غزة، بعد أشهر من النكبة، وعقد أول مجلس فلسطيني فيها، وتم عقد مجلس تشريعي بعد ذلك في المبني نفسه الذي مازال يحمل الاسم نفسه، وأعطى اسمه بعد ذلك لبرلمان السلطة الوطنية، وعقد أول جلساته في المبنى نفسه. ومن هناك، انطلقت بواكير العمل الفلسطيني المسلح عبر ما عُرف بمجموعات الفدائيين التي كانت تتم بمساعدة مصرية على يد الضابط الشهيد مصطفى حافظ. وتكثفت هذه العمليات، حتى ظلت غزة طوال فترة الحكم المصري في حالة اشتباك يومي مع الاحتلال، شملت احتلالها في حرب 1956 وارتكاب جملة كبيرة من المجازر فيها. وأيضاً، في هذا المناخ، تشكلت النواة الأولى لحركة فتح على يد ثلة انخرط بعضهم مبكراً في تلك الأعمال الفدائية. وظلت الروح نفسها تسري في الجسد الفلسطيني، حتى بعد احتلال إسرائيل غزة، حيث ستنشط أعمال المقاومة بأشكال جديدة، وتتشكل مجموعات الفدائيين التابعة للتنظيمات المختلفة، وستظهر رموز كبيرة للمقاومة في مرحلة السبعينيات، حتى يصل الحد بأحد الجنرالات الإسرائيليين للقول "نحكم غزة بالنهار، ويحكمها الفدائيون في الليل". وبكلمة سريعة، ظلت غزة مرجلاً يغلي، لم تهدأ ناره حتى في أشد اللحظات حلكة، بحثاً عن الحرية المنشودة، وسعياً وراء الأحلام المقبورة تحت ركام النكبة. وفي أثناء ذلك كله، كانت جزءاً من دينامية فعل شمولي فلسطين بوصلته.
أنا مع غزة التي لم تشتك يوماً ضيق الحال، ولا قسوة الجلاد، ولا إهمال الأهل وذوي القربى،
ولا ضيم الجيران والخلان. أنا مع غزة التي رضيت أن تحمل نفسها على الصبر، على الرغم من كل الآلام، وتجترح البطولة، أن تواصل السير على الرغم من كل الشوك على الدرب، وتقنع نفسها أن الوصول ممكن، أن تحمل صليبها وتسير في درب الآلام، وهي تهمس أن الجلجلة تمت مرة واحدة، وأنها ستفيق عن صليبها ذات يوم. غزة تلك هي المكان المرغوب في الوعي الجمعي، القادر دائماً على أن يعيد إنتاج الحكاية، حتى يعيد التأكيد فيها على النهاية المشتهاة، حكواتي لا يمل سرد القصة، محاولاً الاقتراب أكثر، في كل مرة، من النهاية السعيدة. أي نهاية سعيدة تلك التي لا يعود فيها عوليس إلى الديار.
لكن، على الرغم من ذلك، لست مع غزة التي يراد لها أن تكون كل فلسطين، أن تختصر القضية في نفسها، بدل أن تذوب هي في ثوب القضية. لست مع غزة التي يحاول بعضهم جعلها مركزاً للكون، وعالماً مستقلاً بذاته. فمن غرائب الأمور أن يشار إلى الشيء بأنه "غزي" او "غزاوي"، وكان غزة باتت عالماً مستقلاً بذاته، وكياناً يختلف عن باقي "الكيانات" الفلسطينية الموجودة. صحيح أن السياق الفلسطيني المتشرذم، والانقسام الفلسطيني سيئ الصيت والسمعة، سبب ذلك كله ربما، وهو من أعطى الضوء الأخضر وراء ظهور تلك النزعات "الغزاوية"، لكن أيضاً التمسك بهذه النزعات واستخدام تلك النبرات في توصيف الأشياء يعمق هذا الانقسام، ويعمل على تأبيده في الوعي، وحفر أخاديد أكثر عمقاً له في الثقافة الوطنية. تلك الثقافة التي لن تعود وطنيةً بأي حال، إذ الوطن نفسه سيتغير، وستتبدل الدلالات التي تحملها الكلمات. وسيظل السؤال الجديد وقتها عن أي وطن نتحدث؟ هل غزة باتت هي الوطن؟
من يتابع بدقة لن يغفل صعود هذه النبرة التي باتت تشكل خطراً على وحدة الكل الفلسطيني، وعلى تماسك المجتمع الفلسطيني، ناهيك عن الحلم الجمعي الذي تدوسه عجلات قطار الانقسام الذي يسعى فقط للوصول للمزيد من التيه. فمحمد عساف مثلاً الفنان الغزي، والمقاومة، حتى في نشرات أخبار كبريات الفضائيات العربية، هي مقاومة غزة، والشعب المحاصر في غزة هو الشعب الغزي. انتبهوا إلى دلالات الكلمات واستخداماتها. بالطبع، ربما يقولها بعضهم انسياقاً وراء عاطفةٍ جياشةٍ، لكنها قاتلة، وقد يقولها آخرون من دون أن يلتفتوا إلى خطورتها. وعلى الرغم مما قد يسمح به باب اختلاق الأعذار، إلا أن ثمة من يريد أن يعزّز هذه الثقافة، ويجعلها هي التي تحكم تفكيرنا عن غزة. فغزة شيء مختلف. شيء منفصل. مصيره بعيد جداً عن مجمل المصير العام. تستخدم في هذا ماكينة ضخمة من الشواهد والوقائع التي تجعل غزة شيئاً خاصاً. فهي مثلاً محاصرة، وهي محاصرة فعلاً، وكأن الضفة الغربية غير محاصرة بطريقة مختلفة، وهي تقاوم، وهذه حقيقة مثل كل الحقائق، وكأن الضفة الغربية لا تقاوم يومياً المستوطنين، وإن بوتيرة مختلفة ومتباينة من مكان إلى آخر، وهي تعاني، وهي تعاني فعلاً، وكأن الفلسطينيين في الداخل، وفي مخيمات الشتات، لا يتجرعون كل يوم كؤوس المعاناة وصنوفها.
لست مع غزة في هذا كله. أنا مع غزة التي تواصل الحفر في الصخر، من أجل أن تكون وتبقى وتصمد، ولا يبتلعها البحر كما كان يحلم إسحق رابين. ولست مع غزة التي تريد أن تطفو فوق البحر، وتبتعد عن الحلم الجماعي. أنا مع الفلسطيني ولست مع الغزي. أنا مع الكل، ولست مع الجزء. وغزة التي تذكّرنا وحدها بالساحل الفلسطيني، وبدرره الجميلة من يافا وعكا وحيفا والمجدل هي ذلك الجزء الجميل الذي يصبو إلى كله الناقص.

عاطف أبو سيف
عاطف أبو سيف
كاتب فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من إيطاليا. صدرت له كتب في العلوم السياسية، وله عدة روايات، منها "حياة معلقة".