لا عودة إلى القمقم

لا عودة إلى القمقم

11 نوفمبر 2015
+ الخط -
الذين استكثروا على الشعوب العربية ربيعاً سلمياً يغير قواعد إدارة السلطة والثروة بالتي هي أحسن، ويضمن للنظام القديم خروجاً آمنا من السلطة، من دون دم، ولا أعواد مشانق، ولا محاكمات ثورية، الذين رأوا في الربيع العربي فاتورة كبيرة، لا تحتملها مصالحهم، عليهم الآن أن يتطلعوا إلى الخراب المنتشر من الماء إلى الماء، عليهم الآن أن يعدوا خسائر الخريف العربي الذي أكل ثورة مصر السلمية، ووضع مكانها نظاماً عسكرياً أعمى يقود البلاد نحو كارثة كبيرة ستزلزل البلاد ومحيطها سنوات طويلة، هو نفسه الخريف الذي قوّض أسس الدولة في اليمن، ودفع بها إلى حربٍ أهلية وأخرى إقليمية، سترجع بالبلاد عقوداً إلى الوراء، هو نفسه الخريف الذي أبقى على نظام بشار في سورية، لكن الدولة انهارت، واستقلالها تبخر، وقرارها انتقل إلى طهران وموسكو، وفوق هذا سقط أكثر من 300 ألف قتيل، ومثلهم من الجرحى، وفوقهم ملايين السوريين الذين تحولوا لاجئين.
لم تفلح الثورة المضادة في مصر واليمن وليبيا وسورية، لا في الحفاظ على النظام القديم، ولا في بناء نظام جديد، ولا حتى في الإبقاء على سلطة الدولة التي تفككت، وأطلقت العنان للحروب الأهلية، والانقسامات الطائفية والمشاريع الإرهابية التي وجدت الأرض الخصبة للنمو والتمدد. حتى تونس التي كانت تبدو من بعيد أملا واعداً بنجاح وصفة الربيع في تأمين انتقال ديمقراطي سلس، ها هي تشهد تشققاً عميقاً لحزب نداء تونس الذي تشكل ما بعد الثورة تعبيراً عن تحالف غير متجانس، وسط معسكر الخائفين من الإسلاميين، ومن التغيير. ويفتح انشقاق حزب الشيخ القايد السبسي الباب لإعادة رسم تحالفات جديدة في مناخ اقتصادي واجتماعي، لا يبعث على الاطمئنان، فالخوف من الإسلاميين لا يصنع بديلاً، والخوف من التغيير ليس أيديولوجية، ولا مشروعاً، تلتف حوله النخب، قديمها وجديدها.
في المغرب، لا يبدو أن (استثناءه) سيصمد كثيراً أمام مخططات الدولة العميقة، للرجوع بالبلاد إلى الوراء، واستعمال ورقة إشراك الإسلاميين في جزء من السلطة غطاءً للعودة إلى الممارسات القديمة التي تحتكر السلطة والثروة، وتؤسس للحكم خارج قواعد الدستور وأصول اللعبة الديمقراطية. كلما اتجهت الطبقات المتوسطة إلى استعمال صوتها الانتخابي، طلبا للتغيير والإصلاح ومعاقبة الأحزاب الفاسدة، زاد رهان الدولة العميقة على الالتفاف على صناديق الاقتراع، وتسمين حزب السلطة (الأصالة والمعاصرة) الذي أعطي أصوات القرى الانتخابية ليشكل سلطة مضادة لسلطة الإسلاميين في المدن، وهذا كله من أجل امتصاص آثار الربيع المغربي من الحياة السياسية المغربية، وإعادة إقفال القوس الذي فتح قبل أربع سنوات مع انطلاق حركة 20 فبراير التي هزت أسس النظام بقوة، وفرضت على الدولة المغربية تعديل الدستور، وحل البرلمان والحكومة السابقين، وإعادة النظر في هندسة السلطة بين القصر ومحيطه وصندوق الاقتراع وما يفرزه من نتائج وقوى وأحزاب.
ليس الربيع العربي قوساً فتح وسيغلق، وليس الحراك الذي انطلق قبل أربع سنوات مجرد فلتة سياسية لن تتكرّر، وليس خطأً في الحساب سيتم تداركه. ما جرى من بركان سياسي تعبير عن تحول تاريخي في مسار الدول العربية لا رجعة فيه. قد يتوقف هذا المسار وقد يتعثر، وقد لا يزهر ربيعه الآن، وقد يخرج أسوأ ما في مجتمعاتنا المريضة من عنف وانقسام وكراهية وسلطوية وتطرف وإرهاب. لكن مسار التغيير سيمضي في طريقه اجتثاث القديم وإحلال الجديد، السؤال هو حجم الكلفة التي سيدفعها كل نظام في مقابل التغيير، ويرفض الآن الطابع السلمي للربيع، وقد يجد نفسه غدا أمام ثورة عنيفة لشتاء عربي عاصف. هذه ليست نبوءة، ولا رومانسية، ولا نزعة إرادوية. هذا تحليل منطقي لوضع عربي شحن بكل أنواع المتفجرات (الفقر، الفساد، الظلم، الإحساس بالمهانة، وتطلع الشباب العربي الجالس في القاعدة العريضة للهرم السكاني إلى العيش في عالم اليوم لا في جلباب الأمس). هل توجد خلطة أقوى من هذه لتفجير أقوى البنى الاجتماعية والسياسية، ولو كانت محروسة بأختام السلطوية؟ الوضع قابل للانفجار في أية لحظة، ولم يعد ينتظر سوى شرارة تقترب منه، شرارة مهما كانت صغيرة أو بعيدة.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.