قبل أن يصبح أمين الحسيني حاجاً وزعيماً

قبل أن يصبح أمين الحسيني حاجاً وزعيماً

24 أكتوبر 2015

الاتهامات التي وجهت للحسيني هدفت لإبعاده عن قضيته

+ الخط -
بسبب ضآلة ثقافته، فضلاً عن طبائع الكذب وإطلاق الكلام على عواهنه، وتخليق الذرائع لمداراة خطايا حكومته؛ حاول نتنياهو إلصاق تهمة التحريض على الإبادة، بزعيم الفلسطينيين في الثلاثينيات والأربعينيات، المرحوم الحاج أمين الحسيني، قاصداً أن ينسحب الاتهام على الفلسطينيين، ضحايا العنصرية ولاحتلال البغيضين الآثميْن. ونرجّح أن نتنياهو لا يعرف. فهو، هذه المرة، يجهل ولا يتغابى، ولم يقرأ تاريخ أوروبا الحديث، لكي يعرف أن عوامل الاحتقان الألماني من اليهود تراكمت منذ الحرب العظمى الأولى. ومن المصادفات، أنه، وبينما كاتب هذه السطور، يُعد مادة لبرنامج عن القضية وصحيح التاريخ، لإحدى قنوات التلفزة الفلسطينية؛ وقع في يديه، رسم كاريكاتوري، نشرته الصحافة النمساوية في عام 1919 تتبدى فيه امرأة يهودية تطعن جندياً ألمانياً من الخلف. وقد أصبح ذلك الرسم، في وعي الألمان، تعبيراً رمزياً عن "أسطورة الطعن من الخلف" Stab –in-the- back myth التي ذاع صيتها. كان ذلك قبل أن يصبح الشاب محمد أمين الحسيني ذلك "الحاج" الذي يتزعم الحركة الوطنية الفلسطينية، فعلى النقيض من ذلك، كان اليهود، في تلك الأيام، آمنين في فلسطين. بل إن كامل طاهر الحسيني، شقيق الحاج أمين الأكبر، مفتي القدس آنذاك، كان مفرطاً في مجاملة العنصر اليهودي وصديقاً لهربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني الأول المخادع المتصهين، ولمؤسس الجامعة العبرية، آحاد هاعام، الاندماجي الذي أعلن مراراً رفضه فكرة إقامة دولة يهودية. ففي يوليو/تموز 1918 رحب كامل، بآرثر بلفور، صاحب الوعد، جنباً الى جنب مع حاييم وايزمان، في حفل وضع حجر الأساس لبناء الجامعة العبرية، على أراضٍ منتزعة من أصحابها في جبل المشارف (أو جبل المشهد) تنفيذاً لتوصية المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897. وفي تلك المناسبة، أهدى حاييم وايزمان لكامل الحسيني نسخة من القرآن الكريم، ممهورة بتوقيعه العبري.
بالنسبة للمرحوم الحاج أمين، كان ريتشارد برايتمان، المتخصص في دراسات المحرقة وجرائم النازية، أصدر تقريراً بعنوان "ظلال هتلر"، نُشر في صحيفة نيويورك تايمز في إبريل/نيسان 2013، ووزع عبر شبكة خدمات الصحيفة، ويمثل محاولة جديدة للربط بين النازية وقيادات النضال الفلسطيني والعربي. وبدا، من ملخص التقرير، أن المقصود الحصري بتلطيخ السمعة هو الحاج أمين الحسيني، مع الإشارة الى قيادات سياسية عربية، حكمت أو تنفذت، بعد الحرب العُظمى الثانية، لم يسمها مُعد التقرير بالاسم. ومن المفارقات أن ريتشارد برايتمان هذا هو واحد من فريق الضد، في نقاش أكاديمي متاح أو مشروع، سمح به الأميركيون لأنفسهم، من دون أن يسمحوا لغيرهم بمثله، ويتعلق بالإجابة عن أسئلة من شاكلة هذه الصيغة: هل كان أدولف هتلر هو العقل المدبر للهولوكوست، وهل هو الذي توافر شخصياً على فعالياتها، أم إن "مبادرة الإحراق" جاءت من مستويات دُنيا في الحكم، ساعدتها البيروقراطية الألمانية؟
(والبيروقراطية في الاستخدام الدارج باللغات الأخرى، وفي العلوم السياسية، تعني الإدارة الحكومية، وهي ليست التعقيدات الإدارية، التي نقصدها عند استخدامنا المصطلح). ففي ذلك النقاش البحثي الأكاديمي، كان هناك طرف أول، يمثله الأكاديميون الذين يقولون إن هتلر لم يكن يقصد، وإن كان في المحصلة مسؤولاً عن الجرائم. وهؤلاء يطلقون على أنفسهم فريق الوظيفية العملية Functionalism ، أما الآخرون، ومن أبرزهم برايتمان، فهم فريق القاصدية والتعمد مع سبق الإصرار Intentionalism ، ويبدو أن برايتمان استفاد من فكرة فريق الضد، لكي يلمّح بضلوع الحاج أمين الحسيني في عمليات المحرقة. فربما يكون هذا مطلوباً في لحظة سياسية يريد فيها المهووسون العنصريون، الحاكمون في تل أبيب، إحراق أكثر الأمنيات الفلسطينية تواضعاً.
في السياق التشهيري الذي يتعمد المبالغة في وصف علاقة المفتي بألمانيا النازية؛ ضغطت الأوساط الصهيونية الأكاديمية (مثلاً) لكي يتأخر الكشف عن وثيقة تؤكد أن المخابرات البريطانية هي التي حاولت تلطيخ سمعة الحاج أمين، عندما زعمت أن الحلفاء عثروا في ليبيا على وثائق تثبت أنه تلقى مساعدة مالية من موسوليني، أي إنه تحالف مع الفاشيين الإيطاليين. وبعد 55 سنة بالتمام والكمال، أفرج عن جزء من الوثائق ذات الصلة، ليتبدى واضحاً أن المخابرات البريطانية هي التي لفقت الحكاية، وأن المفتي لم يتلق ليرة إيطالية واحدة من موسوليني. ففي أيام التهمة، أرادوا للرجل أن يكون غير ذي صلة بقضيته.
جاء في تقرير برايتمان أن علاقة عمل حميمة نشأت بين القادة النازيين والحاج أمين الحسيني الذي "زعم بعد الحرب أنه اضطر إلى اللجوء إلى ألمانيا في أثناء الحرب، لأن البريطانيين طاردوه لاعتقاله". وعلى سبيل التفصيل المختلق، قال برايتمان في تقريره "ولكن، اتضح أن الزعيم المسلم كان يتلقى، كل شهر، ثروة كاملة قوامها 50 ألف مارك ألماني، في وقت كان الفيلد مارشال من قوات النخبة الألمانية يتلقى في سنة نصف هذا الرقم. وقد قيل إن هذا المخصص الشهري الذي كانت تدفعه البيروقراطية الألمانية الى المفتي ساعد على تجنيده شباناً مسلمين، للالتحاق بالفيلق المتعدد الجنسيات التابع للرايخ الثالث".
هنا، وفي مناخ أكاديمي يناقش طبيعة العلاقة بين هتلر نفسه وفكرة المحرقة قبل وقوعها، أو ما إذا كان الفوهرر عقلها المدبر؛ نلمح رغبة صهيونية في إحالة جزء من المسؤولية الجنائية عن الجرائم النازية الى "ظلال" تتشكل من جهاز حكومي نازي ألماني ومستويات دُنيا، ومفتي فلسطيني. ويفسر التقرير، فيقول: "وكانت قيادة النخبة العسكرية النازية وعدت الزعيم الفلسطيني بتنصيبه حاكماً لفلسطين، بعد طرد القوات البريطانية منها، وإبادة 350 ألف يهودي فيها. بل إن هتلر أبلغ الحاج أمين، يوم 28 نوفمبر/تشرين ثاني من العام 1941 أن الفيالق الألمانية المنتشرة من القوقاز الى إفريقيا ستحرر العرب في غربي آسيا، وأن هدف ألمانيا الوحيد هو تدمير اليهود". وذلك على الرغم من اضطرار الحسيني، كمُطارد، واستفرد الصهيونيون مع البريطانيين بشعبه، إلى اللجوء إلى الألمان.
بعد هذا السياق، يتساءل الأكاديمي الليكودي: كيف سُمح للحاج أمين أن يفرّ بعد الحرب إلى سورية، ثم أن يُقيم في لبنان، وأن يتنقل في العالم العربي، ثم ينشط لمساعدة ألمان آخرين على الفرار، ومن بينهم علماء نازيون، التحقوا بالعمل في بلدان عربية؟
حتى الآن، يريد الصهيونيون من تقارير كهذه ذر الرماد في العيون، واستعادة دور الضحية، وتأثيم العرب والمسلمين بأثر رجعي، وتبرير الاستنكاف عن مغادرة الأراضي المحتلة، بعقدة الخوف، وإضفاء سمات مشوّهة على حركة التحرر الفلسطينية. ومن يدري، فربما يتوصل العمل البحثي الذي يلد الفرية من بطن الفرية إلى تحميلنا مسؤولية إحراق الملايين من اليهود الذين طالما عاشوا بيننا، واحتضنتهم بلداننا العربية ومجتمعاتنا، عندما فرّوا من محاكم التفتيش، ولاذوا إلى ربوعنا هرباً من كل اضطهاد. في هذا السياق، وأمام غضبة الجماهير الفلسطينية في وجه العربدة والقتل اليومي وانتهاك المقدسات الإسلامية، لم يجد نتنياهو سوى زيادة الجرعة، في حضرة أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، الذي خفّ غاضباً ناصحاً لنتنياهو، ولسان حاله يقول: طفح الكيل، ولم يعد بالإمكان مداراة ممارساتكم والصمت على احتلالكم الأراضي الفلسطينية.