الإصلاح في ظل اقتصاد المعرفة

الإصلاح في ظل اقتصاد المعرفة

09 يناير 2015
+ الخط -

يفترض، بطبيعة الحال، أن تنشأ حول اقتصاد المعرفة، بما هو التقنيات والموارد الجديدة (الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والجينوم)، منظومة اجتماعية وثقافية. وبالطبع، تبدو التقنيات والموارد واضحة ومجمعاً عليها، لكن التشكل الاجتماعي والثقافي ليس واضحاً ولا حتمياً أو تلقائياً، فالمجتمعات، وإن كانت تتبع الأسواق، أبطأ منها بكثير، ولا تسلك في تشكلها على نحو متوقع تلقائياً، وأسوأ ما في ذلك عندما تنشأ المجتمعات والمدن حول الموارد، لكنها تمضي في حالة اجتماعية وثقافية مناقضة لها، ومن أوضح أمثلة هذا التشكل ما نشهده، اليوم، من تريف للمدن، أو ما يمكن وصفه بالقول: مدن بلا تمدن، وهنا يكون الإصلاح في مسارات ثلاثة: إنشاء العلاقة الصحيحة والملائمة بين الموارد والتقنيات وبين التشكلات والاستجابات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، ومواجهة العلاقات والتشكلات الخاطئة، وإعادة صياغة الأهداف والأغراض العملية للإصلاح، في ظل الفرص والتحديات الجديدة الناشئة عن هذه التقنيات والموارد، وأخيراً إعادة تعريف الإصلاح نفسه، والتمييز بين الإصلاح وضده، وملاحظة ما أنجز بالفعل، أو تلقائياً، من أهداف إصلاحية، بفعل التقنية والتحولات الجديدة، وما يجب إنجازه، وما يجب التمسك به، وما يجب التخلي عنه، وإعادة توزيع الأدوار والأعباء والشراكات والتحالفات بين فئات العمل الإصلاحي ومكوناته، فما كانت تقوم به، على سبيل المثال، وسائل الإعلام، صارت تشارك فيه المجتمعات على نحو فاعل ومؤثر.
يتوقع الكاتب أن الاتجاهات الاجتماعية والثقافية الجديدة، الصاعدة في ظل اقتصاد المعرفة وتقنياتها، تتمثل في خمس اتجاهات رئيسية، هي: أسلوب الحياة ومهاراتها، والمجتمعات والمدن المستقلة، والفنون الجميلة والإبداعية؛ من العمارة والشعر والموسيقى والتصميم والرواية والرسم، والفلسفة والتصوف، وأخيراً الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه. وبالطبع، فإنها مقولات وتقديرات تحتاج إلى توضيح وإثبات.
مؤكد أن الإنسان يبحث ويفكر في القيم الجديدة والناشئة، وتلك المتغيرة بفعل التحولات التي تجري في الأسواق والموارد، وبسبب سرعة هذه التحولات وجذريتها، فإن الأفراد والمجتمعات تعطي أولوية وأهمية لأسلوب الحياة، باعتباره التكيف الضروري الذي يجب اتباعه، فعلى سبيل المثال، عندما تصعد وتنتشر تقنيات التصوير والمراقبة وجمع البيانات، يتشكل فكر واتجاه اجتماعي لحماية الخصوصية وإعادة تعريفها، وكانت الفردية ضريبة تؤدي في مجتمعات

واقتصاد الصناعة، لكنها تتحول، في اقتصاد المعرفة، إلى مطلب نضالي وضرورة اجتماعية، يحمي بها الإنسان نفسه من الانتهاك والخواء. وهكذا، تصعد قيم الفردية باعتبارها مبدأ أخلاقياً رفيعاً وحقاً جديداً للإنسان، ليحمي نفسه من غوغائية التقنيات الجديدة وانتماءاتها، وليرتقي بنفسه، ويحل فيها القيم والمعرفة والمهارات الجديدة التي تحميه من المجتمع واتجاهاته الجديدة، والعلاقات الاجتماعية نفسها تتعرض لتحولات وتحديات، ففي فرص العمل، في المنزل أو عن بعد، يقل الدور الاجتماعي لمؤسسات العمل، وهي نفسها تواجه الانحسار والتحول. وفي فرص التعلم الذاتي وعن بعد، يقل الدور الاجتماعي للمدارس والجامعات. وهكذا، فإن الإنسان في حاجة إلى أوعية جديدة، لتنظيم علاقاته وبناء الصداقة. كيف ستتكون قصص الحب والتعارف، وما حدودها في ظل فرص وإمكانيات التواصل الجديدة، واختفاء، أو انحسار وسائل التعارف والعلاقات التقليدية؟.. هذه أمثلة للتحديات والتحولات التي تغير في حياة الإنسان وتجعل أسلوب الحياة مجالاً صاعداً لإجابة التساؤلات الجديدة، وبناء الحياة الجديدة نفسها، كالصداقة والأسرة والطعام واللباس والسلوك الاجتماعي واللياقة والآداب الفردية والاجتماعية.
وصار الإبداع القوة الرئيسية المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها، وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب ومقياساً للتقدم المهني والاجتماعي، وجوهر التنافس على فرص العمل والقيادة. وهكذا تصبح الثقافة والفنون والموسيقى والكتابة الإبداعية والشعر والرواية والقصة والعمارة والتصميم المحتوى الأساسي للمؤسسات التعليمية والتدريبية، لأن الإبداع والخيال، باعتبارهما أهم صفة يجب أن يتحلى بها السوق والعاملون فيه.
ويعتمد التقدم العلمي والتقني الجديد على معرفة الإنسان وفهمه، ففي محاكاة التقنية للإنسان، تصعد علوم اللغة وعلم النفس والاحتمالات، فجوهر التقدم العلمي والتقني، اليوم، هو تحويل اللغة والإمكانات والمهارات العقلية والتحليلية والتذكر والتداعيات والترجمة والتفكير إلى رموز وبرامج حاسوبية وأجهزة وروبوتات. وبطبيعة الحال، يصعد عدم اليقين ليحل محل اليقين، فتتراجع أهمية العلوم اليقينية، مثل الفيزياء والرياضيات، وتصعد الفلسفة، وتحتل موقعاً جوهرياً ومؤثراً في العلم والتقنية والحياة، وفي إعادة النظر في المعنى والجدوى والوجود والمصير. لم يعد للدين قدرة على الإجابة والتفسير، فيكون التصوف، بما هو التأمل الفردي والبحث عن الإجابات، كما يلهم الإنسان قلبه بديلاً للإجابات الدينية الجاهزة.
وهذا الإنسان، بفرديته وإمكاناته الجديدة، في المعرفة والعمل، وقدراته على العمل بنفسه، يعيد تعريف المهن والحرف، وتتغير تبعاً لذلك المدن والمجتمعات، وعلاقتها بالأفراد والدولة والسوق، ففي مدن الأفراد القادرين على العمل، بأنفسهم ولأنفسهم، والذين لم يعودوا في مواردهم يرتبطون بمؤسسات عمل محددة، وأنظمة عمل تقليدية، يتغير تخطيط المدن والطرق والبيوت، وتتغير، أيضاً، العلاقة مع السلطات والأسواق... إنها مدن ومجتمعات أقرب إلى الاستقلالية والقدرة على تنظيم احتياجاتها وأولوياتها أو معظمها بلا حاجة كبيرة إلى السلطة المركزية، فتصعد أنظمة الحكم المحلي واللامركزية، ويدبر الأفراد وأهل المدن معظم احتياجاتهم وخدماتهم الأساسية، ما يجعلهم أكثر ولاية على أنفسهم واحتياجاتهم وخدماتهم، ويصبح للديمقراطية والحريات محتوى ومعنى جديد ومختلف.

 

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"